قيس بن سعد بن عبادة - أمير الدهاء

قيس بن سعد بن عبادة - أمير الدهاء


قيس بن سعد بن عبادة :كان الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم.

وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن نشتري لقيس بن سعد بن عبادة لحية بأموالنا لفعلنا".

قيس بن سعد بن عبادة - أدهى العرب٬ لولا الاسلام


من هو قيس بن سعد بن عبادة؟


ذلك أنه كان أجرد٬ ولم يكن ينقصه من صفات الزعامة في عرف قومه سوى اللحية التي كان الرجال يتو جون بها وجوههم.فمن هذا الفتى الذي ود قومه لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية تكسو وجهه٬ وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية٬ وزعامته المتفوقة..؟؟ انه قيس بن سعد بن عبادة.

كان قيس بن سعد بن عبادة من أجود بيوت العرب وأعرقها.. البيت الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام:" ان الجود شيمة أهل هذا البيت"..

وانه الداهية الذي يتفجر حيلة٬ ومهارة٬ وذكاء٬ والذي قال عن نفسه وهو صادق:" لولا الاسلام٬ لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"..!!ذلك أنه حاد الذكاء٬ واسع الحيلة٬ متوقد الذهن.

ولقد كان مكان قيس بن سعد بن عبادة  يوم صفين مع علي ضد معاوية.. وكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يمكن أن يؤدي بمعاوية وبمن معه في يوم أو ببعض يوم٬ بيد أنه يتفحص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكر السيء الخطر٬ ثم يذكر قول الله سبحانه:( ولا يحيق المكر السوء الا بأهله)..فيهب من فوره مستنكرا٬ ومستغفرا٬ ولسان حاله يقول:" والله لئن قد ر لمعاوية أن يغلبنا٬ فلن يغلبنا بذكائه٬ بل بورعنا وتقوانا"

ان قيس بن سعد بن عبادة  هذا الأنصاري الخزرجي من بيت زعامة عظيم٬ ورث المكارم كابرا عن كابر.. فهو ابن سعد بن عبادة٬ زعيم الخزرج الذي سيكون لنا معه فيما بعد لقاء..وحين أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس وقد مه الى الرسول قائلا:" هذا خادمك يا رسول الله"..ورأى رسول في قيس كل سمات التفو ق وأمارات  الصلاح..فأدناه منه وقربه اليه وظل قيس صاحب هذه المكانة دائما..يقول أنس صاحب رسول الله:" كان قيس بن سعد من النبي٬ بمكان صاحب الشرطة من الأمير"..

وحين كان قيس بن سعد بن عبادة ٬ قبل الاسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن٬ ولم يكن في المدينة وما حولها الا من يحسب لدهائه ألف حساب.. فلما أسلم٬ علمه الاسلام أن يعامل الناس باخلاصه٬ لا بدهائه٬ ولقد كان ابنا بارا للاسلام٬ ومن ثم نحى دهاءه جانبا٬ ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية.. وصار كلما واجه موقعا صعبا٬ يأخذه الحنين الى دهائه المقيد٬ فيقول عبارته المأثورة:" لولا الاسلام٬ لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"

ولم يكن بين خصال قيس بن سعد بن عبادة ما يفوق ذكائه سوى جوده.. ولم يكن الجود خلقا طارئا على قيس٬ فهو من بيت عريق في الجود والسخاء٬ كان لأسرة قيس٬ على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ٬ مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان الى طعامهم نهارا.. أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا.. 

وكان الناس يومئذ يقولون:" من أحب الشحم٬ واللحم٬ فليأت أطم دليم بن حارثة"..ودليم بن حارثة٬ هو الجد الثاني لقيس..ففي هذا البيت العريق أرضع قيس الجود والسماح..تحدث يوما أبا بكر وعمر حول جود قيس بن سعد بن عبادة وسخائه وقالا:" لو تركنا هذا الفتى لسخائه٬ لأهلك مال أبيه"..وعلم سعد بن عبادة بمقالتهما عن ابنه قيس٬ فصاح قائلا:" من يعذرني من أبي قحافة٬ وابن الخطاب.. يبخلان علي ابني"

وأقرض أحد اخوانه المعسرين يوما قرضا كبيرا.وفي الموعد المضروب للوفاء ذهب الرجل يرد الى قيس قرضه فأبى أن يقبله وقال:" انا لا نعود في شيء أعطيناه"


وللفطرة الانسانية نهج لا يتخلف٬ وسنة لا تتبد ل.. فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة.أجل ان الجود الحقيقي والشجاعة الحقيقية توأمان٬ لا يتخلف أحدهما عن الاخر أبدا.. واذا وجدت جودا ولم تجد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس جودا.. 

وانما هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر الزهو الأدعاء. واذا وجدت شجاعة لا يصاحبها جود٬ فاعلم أنها ليست شجاعة٬ انما هي نزوة من نزوات التهو ر والطيشولما كان قيس بن سعد يمسك أعنة الجود بيمينه فقد كان يمسك بذات اليمين أعنة الشجاعة والاقدام..

لكأنه المعني بقول الشاعر:


اذا ما راية رفعت لمجد 


 تلقاها عرابة باليمين


تألقت شجاعة قيس بن سعد بن عبادة في جميع المشاهد التي صاحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي .وواصلت تألقها٬ في المشاهد التي خاضها بعد أن ذهب الرسول الى الرفيق الأعلى..والشجاعة التي تعتمد على الصدق بدل الدهاء.. وتتوسل بالوضوح والمواجهة٬ لا بالمناورة والمراوغة٬ تحمل صاحبها من المصاعب والمشاق من يؤوده ويضنيه..

ومنذ ألقى قيس بن سعد بن عبادة وراء ظهره٬ قدرته الخارقة على الدهاء والمناورة٬ وحمل هذا الطراز من الشجاعة المسفرة الواضحة٬ وهو قرير العين بما تسببه له من متاعب وما تجلبه من تبعات.

ان الشجاعة الحقة تنقذف من اقتناع صاحبها وحده..هذا الاقتناع الذي لا تكونه شهوة أو نزوة٬ انما يكونه الصدق مع النفس٬ والاخلاص للحق.وهكذا حين نشب الخلاف بين علي ومعاوية٬ نرى قيسا يخلوبنفسه٬ ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه٬ حتى اذا ما رآه مع علي ينهض الى جواره شامخا٬ قويا مستبسلا..وفي معارك صفين٬ والجمل٬ ونهروان٬ كان قيس أحد أبطالها المستبسلين..كان يحمل لواء الأنصار وهو يصيح:هذا اللواء الذي كنا نخف به مع النبي وجبريل لنا مدد ما ضر من كانت الأنصار عيبتهألا يكون له من غيرهم أحد ولقد ولاه الامام علي حكم مصر..

وكانت عين معاوية على مصر دائما كان ينظر اليها كأثمن درة في تاجه المنتظر..من أجل ذلك لم يكد يرى قيسا يتولى امارتها حتى جن جنونه وخشي أن يحول قيس بينه وبين مصر الى الأبد٬ حتى لو انتصر هو على الامام علي انتصارا حاسما..وهكذا راح بكل وسائله الماكرة٬ وحيله التي لا تحجم عن أمر٬ يدس عند علي ضد قيس بن سعد بن عبادة٬ حتى استدعاه الامام من مصر..

وهنا وجد  قيس بن سعد بن عبادة فرصة سعيدة ليستكمل ذكاءه استعمالا مشروعا٬ فلقد أدرك بفطنته أن معاوية لعب ضده هذه اللعبة بعد أن فشل في استمالته الى جانبه٬ لكي يوغر صدره ضد الامام علي٬ ولكي يضائل من ولائه له.. واذن فخير رد على دهاء معاوية هو المزيد من الولاء لعلي وللحق الذي يمثله علي ٬ والذي هو في نفس الوقت مناط الاقتناع الرشيد والأكيد لقيس بن سعد بن عبادة..

وهكذا لم يحس لحظة أن علي  عزله عن مصر.. فما الولاية٬ وما الامارة٬ وما المناصب كلها عند قيس الا أدوات يخدم بها عقيدته ودينه.. ولئن كانت امارته على مصر وسيلة لخدمة الحق٬ فان موقفه بجوار علي فوق أرض المعركة وسيلة أخرى لا تقل أهمية ولا روعة..


وتبلغ شجاعة قيس بن سعد بن عبادة ذروة صدقها ونهاها٬ بعد استشهاد علي وبيعة الحسن..لقد اقتنع قيس بأن الحسن رضي الله عنه٬ هو الوارث الشرعي للامامة فبايعه ووقف الى جانبه غير ملق الى الأخطار وبالا..وحين يضطرهم معاوية لامتشاق السيوف٬ ينهض قيس فيقود خمسة آلاف من الذين حلقوا رؤوسهم حدادا على الامام علي..ويؤثر الحسن أن يضمد جراح المسلمين التي طال شحوبها٬ ويضع حد ا للقتال المفني المبيد فيفاوض معاوية ثم يبايعه..

هنا يدير قيس خواطره على المسألة من جديد٬ فيرى أنه مهما يكن في موقف الحسن من الصواب٬ فان لجنود قيس في ذمته حق الشورى في اختيار المصير٬ وهكذا يجمعهم ويخطب فيهم قائلا:" ان شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا٬ وان شئتم أخذت لكم أمانا:..واختار جنوده الأمر الثاني٬ فأخذ لهم الامام من معاوية الذي ملأ الحبور نفسه حين رأى مقاديره تريحه من أقوى خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة.

وفي المدينة المنو رة٬ عام تسع وخمسين٬ مات الداهية قيس بن سعد بن عبادة الذي روض الاسلام دهاءه..مات الرجل الذي كان يقول:لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" المكر والخديعة في النار٬ لكنت من أمكر هذه الأمة"..

أجل.. ومات تاركا وراءه عبير رجل أمين على كل ما للاسلام عنده من ذمة٬ وعهد وميثاق

رضي الله عن قيس بن سعد بن عبادة


المصادر

رجال حول الرسول

خالد محمد خالد.







حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-