التشبيه-الاستعارة-ماالفرق بينهما؟
ما هو التشبيه؟
التشبيه هو :أن الاسم إذا قُصد إجراؤُه على غير ما هو له لمشابهة بينهما، كان ذلك على أحد الوجهين:
أحدهما أن تُسقط ذكر المشبَّه من البَيْنِ، حتى لا يُعلَم من ظاهر الحال أنك أردته، وذلك أن تقول " عنَّت لنا ظبية "، وأنت تريد امرأة، ووردنا براً، وأنت تريد الممدوح، فأنت في هذا النحو من الكلام إنّما تعرف أن المتكلم لم يُرد ما الاسمُ موضوعٌ له في أصل اللغة، بدليل الحال، أو إفصاح المقال بعد السؤال، أو بفحوَى الكلام وما يتلوه من الأوصاف، مثال ذلك أنك إذا سمعت قوله:
تَرَنَّحَ الشَّرْبُ واغتَالتْ حُلومَهُمُ
شَمسٌ تَرَجَّلُ فِيهم ثم ترتحلُ
استدللتَ بذكر الشَّرْب، واغتيال الحلوم، والارتحال، أنه أراد قَيْنةً، ولو قال: ترجلت شمس، ولم يذكر شيئاً غيره من أحوال الآدميين، لم يُعقَل قطُّ أنه أراد امرأة إلا بإخبارٍ مُسْتَأْنَفٍ، أو شاهدٍ آخَر من الشواهد، ولذلك تجد الشيءَ يلتبس منه حَتَّى على أهل المعرفة.
كما روى أن عديَّ بن حاتم اشتَبَه عليه المُراد بلفظ الخَيْط في قوله تعالى: " حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ " " البقرة: 187 "، وحمله على ظاهره، فقد رُوى أنه قال لما نزلت هذه الآية أخذت عِقالاً أسودَ وعِقالاً أبيض، فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبيّن، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن وِسَادك لطويل عَرِيضٌ، إنما هو الليل والنهار "
والوجه الثاني: أن تذكر كلَّ واحدٍ من المشبَّه والمشبَّه به فتقول زيدٌ أسد وهندٌ بدر، وهذا الرجل الذي تراه سيفٌ صارمٌ على أعدائك.
اعلم أنّ الوجهَ الذي يقتضيه القياس، وعليه يدلّ كلام القاضي في الوساطة، أن لا تُطْلَق الاستعارة على نحو قولنا زيد أسَدٌ وهند بدرٌ، ولكن تقول: هو تشبيه، وإذا قال هو أسدٌ، لم تقُلْ استعار له اسمالأسد، ولكن تقول شَبَّهه بالأسد، وتقول في الأول إنه استعارة لا تتوقف فيه ولا تتحاشى البتّةَ، وإن قلت في القسم الأول: إنه تشبيه كنتَ مصيباً، من حيث تُخبر عمّا في نفس المتكلم وعن أصل الغرض، وإن أردت تمام البيان قلت أراد أن يشبّه المرأةَ بالظبية فاستعار لها اسمها مبالغةً. فإن قلت فكذلك فقل في قولك زيد أسد، إنه أراد تشبيهه بالأسد، فأجرَى اسمه عليه، ألا ترى أنك ذكرته بلفظ التَّنكير فقلت زيد أسد، كما تقول زيد واحد من الأسود، فما الفرْقُ بين الحالين، وقد جرى الاسم في كل واحد منهما على المشبَّه. فالجواب أن الفرق بيّنٌ وهو أنك عزلت في القسم الأول الاسمَ الأصليَّ عنه واطّرحته، وجعلته كأن ليس هو باسم له، وجعلت الثانيَ هو الواقعَ عليه والمتناوِلَ له، فصار قصدُك التشبيهَ أمراً مطويّاً في نفسك مكنوناً في ضميرك، وصار في ظاهر الحال وصورة الكلام ونِصْبَته، كأنه الشيء الذي وُضع له الاسم في اللغة وتُصُوّر - إن تَعَلَّقَهُ الوهمُ - كذلك،
وليس كذلك القسم الثاني، لأنك قد صرّحت فيه بذكر المشبَّه، وذكرُك له صريحاً يأبَى أن تَتوَّهم كونَهُ من جنس المشبَّه به، وإذا سمع السامع قولك زيد أسد وهذا الرجل سيف صارمٌ على الأعداء، استحال أن يظنّ وقد صرَّحت له بذكر زيدٍ أنك قصدت أسداً وسيفاً، وأكثر ما يمكن أن يُدَّعى تخيُّلُه في هذا أن يقع في نفسه من قولك زيد أسد، حالُ الأسد في جراءته وإقدامه وبَطْشه، فأمَّا أنْ يقع في وهمه أنه رجل وأَسَدٌ معاً بالصورة والشخص فمحالٌ. ولمَّا كان كذلك، كان قصدُ التشبيه من هذا النحو بيِّناً لائحاً، وكائناً من مقتضى الكلام، وواجباً من حيث موضوعه، حتى إن لم يُحمَلْ عليه كان مُحالاً
فالشيء الواحدُ لا يكون رجلاً وأَسداً، وإما يكون رجلاً وبصفَة الأسد فيما يرجع إلى غرائز النفوس والأخلاق، أو خصوصٍ في الهيئة كالكراهة في الوجه، وليس كذلك الأول، لأنه يحتمل الحمل على الظَّاهر على الصحة، فلست بممنوع من أن تقول عَنَّت لنا ظبيةٌ، وأنت تريد الحيوان وطلعت شمس، وأنت تريد الشَّمسَ، كقولك: طلعتِ اليوم شمسٌ حارّة وكذلك تقول: هززتُ على الأعداء سيفاً وأنت تريد السيف، كا تقوله وأنت تريد رجلاً باسلاً استعنت به، أو رأياً ماضياً وُفّقت فيهِ، وأصبت به من العدوِّ فأرهبته وأَثَّرتَ فيه، وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يُفصَل بين القسمين
فيسمَّى الأوّل: استعارةً على الإطلاق
ويقال في الثاني إنه تشبيه
فأما تسميةُ الأول تشبيهاً فغير ممنوع ولا غريب، إلاّ أنه على أنك تُخبر عن الغرض وتُنبئ عن مضمون الحال، فأمّا أن يكون موضوعُ الكلام وظاهره موجباً له صريحاً فَلا. فإن قلت فكذلك قولك هو أسد، ليس في ظاهره تشبيه، لأن التشبيه يحصُل بذكر الكاف أو مِثْل أو نحوهما. فالجواب أن الأمر وإن كان كذلك، فإنّ موضوعَه من حيث الصُّورة يوجب قصدك التشبيه، لاستحالة أن يكون له معنًى وهو على ظاهره، وله مثالٌ من طريق العَادة، وهوأنّ مَثَلَ الاسم مَثَلُ الهيئة التي يُستدَلّ بها على الأجناس، كزِيِّ الملوك وزيّ السُّوقة، فكما أنك لو خلعْتَ من الرجل أثواب السوقة، ونَفَيْتَ عنه كل شيء يختصُّ بالسوقة، وألبستَهُ زِيَّ الملوك، فأبديته للناس في صورة الملوك حتى يتوهّموه مَلِكاً، وحتى لا يَصِلوا إلى معرفة حاله إلا بإخبار أو اختبار واستدلال من غير الظاهر، كنتَ قد أعرتَهُ هيئةَ المَلِك وزِيَّه على الحقيقة، ولو أنك ألقيت عليه بعض ما يلبسه المَلِك من غير أن تُعَرِّيَهُ من المعاني التي تدل على كونه سُوقَةً، لم تكن قد أعرتَهُ بالحقيقة هيئةَ الملك، لأن المقصود من هيئة الملك أن يحصُل بها المَهابةُ في النفس، وأن يُتَوَّهم العظمة، ولا يحصل ذلك مع وجود الأوصاف الدالّة على أن الرجل سُوقة.
افرِضْ هذه الموازنة في الشيء الواحد، كالثوب الواحد يُعارُه الرجلُ فيلبَسُه على ثوبه أو منفرداً، وإنما اعتبرِ الهيئةَ وهي تحصلُ بمجموع أشياء، وذلك أن الهيئة هي التي يُشبه حالها حالَ الاسم، لأن الهيئة تخصُّ جنساً دون جنس، كما أن الاسم كذلك، والثوب على الإطلاق لا يفعل ذلك إلا بخصائص تَقْترن به وتُرعَى معه، فإذا كان السامع قولَك: زيد أسدٌ لا يتوهَّم أنك قصدت أسداً على الحقيقة، لم يكن الاسم قد لحقه، ولم تكن قد أعرته إياه إعارةً صحيحةً، كما أنك لم تُعِر الرجل هيئةَ الملِك حين لم تُزِلْ عنه ما يُعلَم به أنه ليس بملك
هذا وإذا تأمّلنا حقيقةَ الاستعارة في اللغة والعادة، كان في ذلك أيضاً بيانٌ لصحة هذه الطريقة، ووجوبِ الفرقِ بين القسمين، وذاك أن من شرط المستعار أن يَحْصُل للمستعير منافعهُ على الحدّ الذي يحصل للمالِك، فإن كان ثوباً لَبِسَه كما لبسه، وإن كان أداةً استعملها في الشيء تصلح له، حتى إنّ الرائي إذا رآه معه لم تنفصل حاله عنده من حال ما هو مِلْكُ يدٍ ليس بعاريَّةٍ، وإما يفْضُلُهُ المالك في أنّ له أن يُتلف الشيء جملةً، أو يُدخِل التلف على بعض أجزائه قصدًا، وليس للمستعير ذلك، ومعلومٌ أنّ ما هو كالمنفعة من الاسم أن يوجب ذكرُه القصدَ إلى الشيء في نفسه، فإذا قلت زيد، عُلم أنك أردت أن تُخبر عن الشخص المعلوم، وإذا قلت لقِيت أسداً، عُلم أنك علّقت اللقاءَ بواحد من هذا الجنس، وإذا كان الأمر كذلك، ثم وجدنا الاسم في قولك عنّت ظبية، يُعقَل من إطلاقه أنك قصدت الجنس المعلوم ولا يُعلَم أنك قصدت امرأةً، فقد وقع من المرأة في هذا الكلام موقعَه من ذلك الحيوان على الصحة، فكان ذلك بمنزلةِ أن المستعير ينتفع بالمستعار انتفاعَ مالكه، فيلبَسُه لُبْسَهُ، ويتجمَّل به تجمُّلَه، ويكون مكانه عنده مكانَ الشيءِ المملوك، حتى يعتقد من يَنْظُر إلى الظاهر أنه له، ولما وجدنا الاسم في قولك زيد أسد، لا يقع من زيد ذلك الموقع، من حيث إنّ ذكرَه باسمه يمنع من أن يصير الاسم مطلقاً عليه، ومتناوِلاً له على حدّ تناوُله ما وُضع له، كان وِزانُ ذلك وِزانَ أن تضعَ عند الرجل ثوباً وتمنعَه أن يلبسه، أو بمنزلة أن تطرَحَ عليه طَرَفَ ثوبٍ كان عليك، فلا يكون ذلك عاريَّةً صحيحة، لأنك لم تُدخلْه في جملته، ولم تُعْطِه صورةَ ما يَخْتَص به ويصير إليه، ويخفَى كونُه لك دونه فاعرفه. وها هنا فصل آخر من طريق موضوع الكلام، يُبَيِّن وجوب الفرق بين القسمين وهو أن الحالة التي يُخْتَلف في الاسم إذا وقع فيها، أيُسمَّى استعارة أم لا يسمَّى؛ هي الحالة التي يكون الاسم فيها خبرَ مبتدأ أو منزَّلاً منزلتَه، أعني أن يكون خبرَ كان، أو مفعولاً ثانياً لبابِ علمت، لأن هذه الأبواب كلها أصلها مبتدأ وخبر أو يكون حالاً، لأن الحال عندهم زيادةٌ في الخبر، فحكمها حكم الخبر فيما قصدته هاهنا خصوصاً، والاسم إذا وقع في هذه المواضع، فأنت واضعٌ كلامك لإثبات معناه، وإن أدخلت النَّفي على كلامك تَعلَّق النفي بمعناه، تفسير هذه الجملة أنك إذا قلت زيد منطلق، فقد وضعت كلامَك لإثبات الانطلاق لزيد، ولو نفيت فقلت ما زيد منطلقاً، كنت نفيت الانطلاق عن زيد، وكذلك: أكان زيد منطلقاً، وعلمتُ زيداً منطلقاً، ورأيت زيداً منطلقاً، أنت في ذلك كلِّه واضعٌ كلامك ومُزْجٍ له لتُثبت الانطلاق لزيد، ولو خُولفت فيه انصرف الخلافُ إلى ثبوته له، وإذا كان الأمر كذلك، فأنت إذا قلت زيد أسدٌ ورأيتُه أسداً، فقد جعلت اسم المشبَّه به خبراً عن المشبَّه، والاسم إذا كان خبراً عن الشيء كان خبراً عنه، إمّا لإثبات وَصْفٍ هو مشتقٌّ منه لذلك الشيء، كالانطلاق في قولك زيد منطلقْ، أو إثباتِ جنسيةٍ هو موضوعٌ لها كقولك: هذا رجل، فإذا امتنع في قولنا زيد أسدٌ أن تُثبت شَبَه الجنس، فقد اجتلبْنَا الاسم لنُحْدِثَ به التشبيه الآن، ونقرِّرَه في حيّز الحصول والثبوت، وإذا كان كذلك، كان خليقاً بأن تسمّيه تشبيها، إذ كان إنما جاءَ ليُفيدَه ويُوجبَه
وأمّا الحالة الأخرى التي قلنا إن الاسم فيها يكون استعارةً من غير خلافٍ، فهي حالةٌ إذا وقع الاسم فيها لم يكن الاسم مجتلَباً لإثبات معناه للشيء، ولا الكلامُ موضوعاً لذلك، لأن هذا حكمٌ لا يكون إلا إذا كان الاسم في منزلة الخبر من المبتدأ، فأمّا إذا لم يكن كذلك، وكان مبتدأ بنفسه، أو فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه، فأنت واضعٌ كلامك لإثبات أمر آخرَ غيرِ ما هو معنى الاسم. بيان ذلك أنك إذا قلت جاءني أسدٌ ورأيت أسداً ومررت بأسدٍ، فقد وضعت الكلام لإثبات المجيء واقعاً من الأسد، والرؤية والمرور واقعَين منك عليه، وكذلك إن قلت الأسدُ مُقبِل، فالكلام موضوعٌ لإثبات الإقبال للأسد، لا لإثبات معنى الأسد، وإذا كان الأمر كذلك، ثم قلت عنّتْ لنا ظبيةٌ، وهززت سيفاً صارماً على الأعداء وأنت تعني بالظبية امرأةً، وبالسيف رجلاً لم يكن ذكرُك للاسمين في كلامك هذا لإثبات الشُّبه المقصودِ الآن، وكيف يُتصوَّر أن تقصد إلى إثبات الشبه منهما بشيءٍ، وأنت لم تذكر قبلهما شيئاً ينصرف إثبات الشبه إليه، وإنما تُثبت الشُّبه من طريق الرجوع إلى الحال، والبحثِ عن خَبِئٍ في نفس المتكلم.
وإذا كان كذلك بانَ أن الاسم في قولك زيد أسدٌ، مقصودٌ به إيقاع التشبيه في الحال وإيجابه، وأما في قولك: عنّت لنا ظبيةٌ وسللتُ سيفاً على العدوّ، فوُضعَ الاسم هكذا انتهازاً واقتضاباً على المقصود، وادّعاء أنه من الجنس الذي وُضع له الاسم في أصل اللغة، وإذا افترقا هذا الافتراقَ، وجب أن نفرق بينهما في الاصطلاح والعبارة، كما أنّا نفصِل بين الخبر والصفة في العبارة، لاختلاف الحكم فيهما، بأنّ الخبر إثباتٌ في الوقت للمعنى، والصفة تبيينٌ وتوضيحٌ وتخصيصٌ بأمرٍ قد ثبت واستقرَّ وعُرِفَ، فكما لم نرضَ لاتفاق الغَرَض في الخبر الصِّفة على الجملة واشتراكهما إذا قلت زيد ظريفٌ وجاءَني زيد الظَّريف، في التباس زيد في الظرف واكتسائه له، أَنْ تجعلهما في الوضع الاصطلاحيّ شيئاً واحداً، ولا نفرِّق بتسميتنا هذا خبراً وذلك صفةً كذلك ينبغي أن لا يدعونا - اتفاق قولنا: جاءني أسد وهززت سيفاً صارماً وقولنا زيد أسد وسيف صارم، في مطلق التشبيه - إلى التسوية بينهما، وتَرْكِ الفَرْق من طريق العبارة، بل وجب أن نفرِّق، فنسمِّي ذاك استعارةً وهذا تشبيهاً، فإن أبيتَ إلا أن تُطلق الاستعارة على هذا القسم الثاني، فينبغي أن تعلم أن إطلاقها لا يجوز في كل موضعٍ يحسن دخول حرف التشبيه فيه بسهولة، وذلك نحو قولك: هو الأسد وهو شمسُ النهار وهو البدر حسناً وبهجةً، والقضيبُ عطفاً، وهكذا كل موضع ذكر فيه المشبَّه به بلفظ التعريف، فإن قلت: هو بحر وهو ليثٌ ووجدته بحراً، وأردت أن تقول إنه استعارة، كنت أعذَرَ وأشبه بأن تكون على جانب من القياس، ومتشبّثاً بطَرفٍ من الصواب، وذلك أن الاسم قد خرج بالتنكير عن أن يحسن إدخال حرف التشبيه عليه، فلو قلت هو كأسد وهو كبحر، كان كلاماً نازلاً غير مقبول، كما يكون قولك هو كالأسد، إلا أنَّه وإن كان لا يحسن فيه الكاف فإنه يحسن فيه كأنّ كقولك كأنه أسد، أو ما يجري مجرى كأنّ في نحو تحسِبُه أسداً وتَخَالُه سيفاً فإن غَمَض مكانُ الكاف وكأن، بأن يوصف الاسم الذي فيه التشبيهُ بصفةٍ لا تكون في ذلك الجنس، وأمرٍ خاصٍّ غريبٍ فقيل هو بحر من البلاغة، وهو بدر يسكن الأرض، وهو شمس لا تغيب، وكقوله:
شَمْسٌ تألَّقُ والفِرَاقُ غُروبُها
عنَّا وبَدْرٌ والصُّدُودُ كُسوفُهُ
فهو أقرب إلى أن نسمّيه استعارةً، لأنه قد غمضَ تقدير حرف التشبيه فيه، إذ لا تصلُ إلى الكاف حتى تُبطل بِنْيةَ الكلام وتُُبدِّل صورته فتقول: هو كالشمس المتألِّقة، إلا أن فراقَها هو الغروب، وكالبدرِ إلا أن صدودَه الكسوف. وقد يكون في الصفات التي تجيء في هذا النحو، والصِّلات التي تُوصَل بها، ما يختلّ به تقدير التشبيه، فيقرب حينئذ من القبيل الذي تُطلَق عليه الاستعارة من بعض الوجوه، وذلك مِثل قوله:
أَسدٌ دمُ الأَسَدِ الهِزَبْرِ خِضابُهُ
مَوْتٌ فَرِيصُ الموتِ منه ترْعَدُ
لا سبيل لك إلى أن تقول: هو كالأسد وهو كالموت، لما يكون في ذلك من التناقض، لأنك إذا قلت هو كالأسد فقد شبّهته بجنس السبعُ المعروف، ومُحالٌ أن تجعله محمولاً في الشَّبه على هذا الجنس أوَّلاً ثم تجعل دَمَ الهزَبْرِ الذي هو أقوى الجنس، خضابَ يده، لأنّ حملك له عليه في الشَّبه دليل على أنه دونه، وقولك بَعْدُ دمُ الهزبر من الأسود خضابه، دليل على أنه فوقها، وكذلك محالٌ أن تشبَّهه بالموت المعروف، ثم تجعله يخافه، وترتعد منه أكتافه، وكذا قوله:
سَحَابٌ عَدَاني سَيْلُه وهو مُسبلٌ
وبَحْرٌ عَدَاني فيْضُه وَهْو مُفْعَمُ
وبَدرٌ أضاءَ الأَرضَ شرقاً ومغرِباً
ومَوْضِعُ رَحْلِي منه أسْوَدُ مُظلمُ
إن رجعت فيه إلى التشبيه الساذَج فقلت هو كالبدر، ثم جئت تقول أضاء الأَرض شرقاً ومغرباً ومَوْضِع رحلي مظلمٌ لم يضيء به، كنتَ كأنك تجعل البدر المعروف يُلبس الأرضَ الضياءَ ويمنعه رحلَك، وذلك مُحَالٌ، وإنما أردت أن تُثبت من الممدوح بدراً مفرداً له هذه الخاصية العجيبة التي لم تُعرَف للبدر، وهذا إنما يَتَأتَّى بكلام بعيدٍ من هذا النظم، وهو أن يقال: هل سمعت بأن البَدْر يطلع في أُفُقٍ، ثم يمنع ضوءه موضعاً من المواضع التي هي مُعرَّضة له وكائنة في مقابلته، حتى ترى الأرض الفضاء قد أضاءَت بنوره البيت، فهذا النحو موضوع على تخييلِ أنه زاد في جنس البدر واحدٌ له حُكمٌ وخاصّةٌ لم تُعرَف. وإذا كان الأمر كذلك صار كلامُك موضوعاً لا لإثبات الشبه بينه وبين البدر، ولكن لإثبات الصِّفة في واحد متجدّدٍ حادثٍ من جنس البدر لم تُعرَف تلك الصفة للبدر، فيصير بمنزلة قولك زيد رجل يقري الضيوفَ ويفعل كيت وكيت، فلا يكون قصدك إثباتَ زيدٍ رجلاً، ولكن إثباتُ الصفة التي ذكرتَها له، فإذا خرج الاسم الذي يتعلق به التشبيه من أن يكون مقصوداً بالإثبات، تبيَّن أنه خارج عن الأصل الذي تقدّم، من كون الاسم لإثبات الشبه، فالبحتري في قوله: " وَبَدْرٌ أضاءَ الأَرْضَ " قد بَنَى كلامه على أن كونَ الممدوح بدراً، أمرٌ قد استقرَّ وثَبت، وإنما يعمل في إثبات الصفة الغريبة، والحالةِ التي هي موضع التعجّب، وكما يمتنع دخول الكاف في هذا النحو، كذلك يمتَنِعُ دخولُ كأَن وتحسب وتخال، فلو قلت كأنه بدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً وموضع رحلي منه مظلم كان خَلْفاً من القول. وكذلك إن قلت: تحسبه بدراً أضاء الأرض ورحلي منه مظلم، كان كالأوّل في الضعف، ووجه بُعده من القبول بيِّنٌ، وهو أنّ كأن وحسبت وخلت وظننت تدخل إذا كان الخبر والمفعول الثاني أمراً معقولاً ثابتاً في الجملة، إلا أنه في كونه متعلقاً بما هو اسم كأن أو المفعول الأوّل من حسبت مشكوك فيه، كقولنا كأن زيداً منطلق، أو مجازٌ يُقصَد به خلاف ظاهره، نحوُ كأنّ زيداً أسدٌ، فالأسد على الجملة ثابت معروف، والغريب هو كون زيدٍ إياه ومن جنسه، والنكرة في نحو هذه الأبيات موصوفةٌ بأوصاف تدلُّ على أنك تُخبر بظهور شيءٍ لا يُعرَف ولا يُتصوَّر، وإذا كان كذلك، كان إدخال كأن وحسبت عليه كالقياس على المجهول. وتأّمّلْ هذه النكتة فإنه يَضْعُفُ ثانياً إطلاق الاستعارة
على هذا النحو أيضاً، لأن موضوع الاستعارة - كيف دارت القضيةُ - على التشبه، وإذا بانَ بما ذكرتُ أن هذا الجنس إذا فَلَيتَهُ عن سِرّه، ونقَّرتَ عن خبيئه، فمحصوله أنك تدّعي حدوثَ شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختُصَّ بصفة غريبة وخاصية بديعة، لم يكن يُتوهَّم جوازُها على ذلك الجنس، كأنك تقول: ما كنّا نعلم أن هاهنا بدراً هذه صفته كان تقدير التشبيه فيه نقضاً لهذا الغرض، لأنه لا معنى لقولك: أشبّهه ببدرٍ حَدَثٍ خلافِ البدور ما كان يُعرَف. وهذا موضع لطيف جدّاً لا تنتصف منه إلاّ باستعانة الطبع عليه، ولا يمكن توفيةُ الكشف فيه حقَّه بالعبارة، لدقَّة مسلكه. ويتصل به أن في الاستعارة الصحيحة ما لا يحسن دخول كَلِمِ التشبيه عليه، وذلك إذا قوي التشَّبَهُ بين الأصل والفرع، حتى يتمكن الفرعُ في النفس بمداخلة ذلك الأصل والاتحاد به، وكونِه إياه، وذلك في نحو النور إذا استعير للعلم والإيمان، والظلمة للكفر والجهل، فهذا النحو لتمكُّنه وقوَّةِ شَبهه ومَتانة سببه، قد صار كأنه حقيقة، ولا يحسن لذلك أن تقول في العلم كأنه نور، وفي الجهل كأنه ظلمة، ولا تكاد تقول للرجل في هذا الجنس كأنَّك قد أوقعتني في ظلمة بل تقول: أوقعتني في ظلمة، وكذلك الأكثرُ على الألسُن والأسبقُ إلى القلوب أن تقول: فهمت المسألة فانشرح صدري وحصل في قلبي نور، ولا تقول: كأنّ نُوراً حصل في قلبي، ولكن إذا تجاوزتَ هذا النوع إلى نحو قولك: سللتُ منه سيفاً على الأعداء، وجدتَ كأن حسنةً هناك كثيرةً، كقولك: بعثته إلى العدوّ فكأني سللت سيفاً وكذلك في نحو: زيدٌ أسد وكأن زيداً أسد، وهكذا يتدرج الحُكْمُ فيه، حتى كلَّما كان مكان الشَبَه بين الشيئين أخفى وأغمضَ وأبعدَ من العُرْف، كان الإتيان بكلمة التشبيه أبين وأحسنَ وأكثرَ في الاستعمال. ومما يجب أن تجعله على ذكر منك أبداً، وفيه البيان الشافي أنّ بين القسمين تبايُناً شديداً أعني بين قولك زيد أسد وقولك رأيت أسداً وهو ما قدّمته لك من أنك قد تجدُ الشيءَ يصلح في نحو زيد أسدٌ حيث تذكُرُ المشبَّه باسمه أَوّلاً، ثم تُجري اسم المشبَّه به عليه، ولا يصلح في القسم الآخر الذي لا تذر فيه المشبَّه أصلاً وتطْرحُه. ومن الأمثلة البيّنة في ذلك قولُ أبي تمام: لقسمين تبايُناً شديداً أعني بين قولك زيد أسد وقولك رأيت أسداً وهو ما قدّمته لك من أنك قد تجدُ الشيءَ يصلح في نحو زيد أسدٌ حيث تذكُرُ المشبَّه باسمه أَوّلاً، ثم تُجري اسم المشبَّه به عليه، ولا يصلح في القسم الآخر الذي لا تذر فيه المشبَّه أصلاً وتطْرحُه. ومن الأمثلة البيّنة في ذلك قولُ أبي تمام:
وكَانَ المَطْلُ في بَدْءٍ وعَوْدٍ
دُخاناً للصَّنِيعةِ وهي نارُ
قد شبَّه المطل بالدُّخان، والصنيعة بالنار، ولكنه صرّح بذكر المشبَّه، وأوقع المشبَّه به خبراً عنه، وهو كلام مستقيم ولو سلكت بهِ طريقةَ ما يسقط فيه ذكر المشبَّه فقلت مثلاً: أقْبَسْتَني ناراً لها دخان، كان ساقطاً، ولو قلت أقبستَني نوراً أضاء أُفُقي به، تريد علماً، كان حَسَناً، حُسْنَه إذا قلت عِلْمُك نور في أُفقي، والسبب في ذلك أنّ اطِّراحَ ذكر المشبَّه والاقتصارَ على اسم المشبَّه به، وتنزيلَهُ منزلته، وإعطاءَه الخلافة على المقصود، إنما يصحّ إذا تقرَّر الشَّبه بين المقصود وبين ما تستعير اسمه له، وتستبينه في الدِّلالة، وقد تَقرَّر في العُرف الشبه بين النور والعلم وظهرَ وَاشْتُهِر، كما تقرر الشَّبه بين المرأة والظبية، وبينَها وبينَ الشمس ولم يتقرر في العُرْف شَبَهٌ بين الصَّنيعة والنار، وإنما هو شيءٌ يضعه الآن أبو تمام ويتمحّله، ويعمل في تصويره، فلا بُدّ له من ذكر المشبَّه والمشبَّه به جميعاً حتى يُعقَلَ عنه ما يريده، ويَبِينَ الغرض الذي يقصده، وإلاّ كان بمنزلة من يريد في إعلام السامع أنّ عنده رجلاً هو مثل زيد في العلم مثلاً، فيقول له: عندي زيد، ويَسُومه أن يَعْقِل من كلامه أنه أراد أن يقول: عندي رجل مثل زيد، أو غيره من المعاني، وذلك تكليفُ علم الغيب. فاعرف هذا الأصل وتبيَّنْه، فإنك تزداد به بصيرةً في وجوب الفَرْق بين الضربين، وذلك أنهما لو كانا يَجْرِيان مجرىً واحداً في حقيقة الاستعارة، لوجب أن يَسْتَويَا في القضيّة، حتى إذا استقامَ وَضْعُ الاسم في أحدهما استقام وَضْعه في الآخر فاعرفه. فإن قلت فما تقول في نحو قولهم لقيتُ به أسداً ورأيت منه ليثاً فإنه مما لا وجه لتسميته استعارةً، ألا تراهم قالوا: لئن لقيتُ فلاناً لَيلْقَيَنَّك منه الأسَدُ، فأتوا به معرفةً على حدِّه إذا قالوا: احذرِ الأسد، وقد جاء على هذه الطريقة ما لا يُتَصوَّر فيه التشبيه، فُظَنَّ أنّه استعارة، وهو قوله عز وجل: " لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ " " فصلت: 28 "، والمعنى - واللَّه أعلم - أنّ النَّار هي دار الخلد، وأنت تعلم أن لا معنى هاهنا لأن يقال إن النار شُبّهت بدارِ الخلد، إذ ليس المعنى على تشبيه النَّار بشيء يسمَّى دار الخلد، كما تقول في زيد إنه مثل الأسد، ثم تقول: هو الأسد، وإنما هو كقولك: النار منزلهم ومسكنهم، نعوذ باللَّه منها. وكذا قوله:
يَأبَى الظُلَامَةَ مِنْهُ النَّوْفَلُ الزُّفَرُ
المعنى على أنه النَّوفل الزُّفَر، وليس الزفر باسمٍ لجنسٍ غير جنس الممدوح كالأسد، فيقالَ إنه شبّه الممدوح به، وإنما هو صفة كقولك هو الشجاع وهو السيّد وهو النهَّاض بأعباء السيادة، وكذلك قولُه:
يَا خَيْرَ مَن يَرْكَبُ المطيَّ وَلَا
يَشْرَبُ كأسَاً بكَفِّ مَن بَخِلا
لا يتصور فيه التشبيه، وإنما المعنى أنه ليس ببخيل هذا وإنما يُتصوَّر الحكمُ على الاسم بالاستعارة، إذا جرى بوجهٍ على ما يُدَّعَى أنه مستعارٌ له، والاسمُ في قولك لقيتُ به أسداً أو لقيني منه أسداً، لا يُتصوَّر جَرْيه على المذكور بوجه، لأنه ليس بخبرٍ عنه، ولا صفةٍ له، ولا حالٍ، وإنما هو بنفسه مفعولُ لقيتُ وفاعل لقيني، ولو جاز أن يجري الاسم، هاهنا مجرى المستعارِ المتناوِل المستعارَ له، لوجب أن نقول في قوله:
حتَّى إذا جَنَّ الظَّلامُ وَاختلطْ
جَاءُوا بمَذْقٍ هل رَأَيتَ الذئبَ قَطّْ
إنه استعار اسم الذئب للمَذْق، وذلك بَيِّنُ الفساد. وكذا نحو قوله:
نُبِّئْتُ أنّ أبا قَابُوسَ أَوْعَدَني
ولا قَرَارَ على زَأْرٍ من الأَسَدِ
لا يكون استعارة، وإن كنت تجد من يفهم البيت قد يقول: أراد بالأسد النُّعمان، أو شبَّهه بالأسد، لأن ذلك بيانٌ للغَرَض، فأمَّا القضيةُ الصحيحةُ وما يَقَع في نفس العارف، ويوجِبُه نقد الصَّيْرَف، فإنّ الأسد واقع على حقيقته حتى كأنه قال: ولا قَرَار على زَأْر هذا الأسد، وأشار إلى الأسد خارجاً من عَرِينه مُهدِّداً مُوعداً بزئيره، وأيُّ وجْهٍ للشكِّ في ذلك، وهو يؤدّي إلى أن يكون الكلام على حدّ قولك: ولا قَرَار على زَأْرِ مَن هُو كالأسد؟ وفيه من العِيِّ والفَجَاجة شيءٌ غير قليل. هذا ومن حقّ غالطٍ غَلِطَ في نحو ما ذكرتُ - على قلَّة عُذْرِه - أن لا يغلط في قول الفرزدق:
قِيَاماً يَنْظُرون إلى سَعيدٍ
كأنَّهُمُ يَرَون به هلالَا
ولا يُتَوَهَّم أن هلالاً استعارة لسعيد، لأن الحكم على الاسم بالاستعارة مع وجود التشبيه الصريح، محالٌ جارٍ مجرى أن يكون كُلّ اسم دخل عليه كافُ التشبيه مستعاراً، وإذا لم يغلط في هذا فالباقي بمنزلته
المصادر:
الكتاب: أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر
الناشر: مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة