صرخة في وجه قصيدة النثر

صرخة في وجه قصيدة النثر


شاعت في الجو الأدبي في لبنان بدعة غريبة في السنوات العشر الماضية، فأصبحت بعض المطابع تصدر كتبًا تضم بين دفاتها نثرًا طبيعيًّا مثل أي نثر آخر، غير أنها تكتب على أغلفتها كلمة "شعر". ويفتح القارئ تلك الكتب متوهمًا أنه سيجد فيها قصائد مثل القصائد، فيها الوزن والإيقاع والقافية، غير أنه لا يجد من ذلك شيئًا.


 وإنما يطالعه في الكتاب نثر اعتيادي مما يقرأ في كتب النثر. وسرعان ما يلاحظ أن الكتاب خلو من أي أثر للشعر، فليس فيه لا بيت ولا شطر، وإذن فلماذا كتبوا على الغلاف أنه شعر؟ تراهم يجهلون حدود الشعر؟ أم أنهم يحدثون بدعة لا مسوغ لها؟.



قصيدة النثر ليست شعرا



 وإذا كانوا يمتلكون المسوغ فلماذا لا يصدرون كتب النثر هذه بفذلكة يبينون فيها للقارئ الوجه الذي ساغ لهم به أن يصدروا كتاب نثر لا يختلف اثنان في أنه نثر ثم يكتبون عليه أنه "شعر"؟.


 لماذا لا يمنحون القارئ، على الأقل، فرصة يتخذ فيها موقفًا من هذه البدعة فإما أنيرى وجه تسويغاتهم فيقرهم عليها أو أن يخالفهم فيرفضها:؟ وإنما الخطأ أن يمضي المرء فيسمى النثر شعرًا دون أي تبرير وكأن ذلك أمر بديهي يتفق الناس كلهم عليه منذ أقدم العصور.

دور النقاد في التأسيس لقصيدة النثر

والحقيقة التي يعرفها المختصون والمتتبعون، أن طائفة من أدباء لبنان يدعون اليوم إلى تسمية النثر شعرًا. وقد تبنت مجلة "شعر" هذه الدعوة وأحدثت حولها ضجيجًا مستمرًّا لم تكن فيه مصلحة لا للأدب العربي ولا للغة العربية ولا للأمة العربية نفسها. وكان مضمون هذه الدعوة ما جاء في مقال كتبته السيدة الأديبة خزامى صبري عن كتاب نثر فيه تأملات وخواطر لأديب لبناني ناشئ. قالت عن ذلك الكتاب:

"مجموعة شعرية لم تعتمد الوزن والقافية التقليديتين. وغالبية القراء في البلاد العربية لا تسمي ما جاء في هذه المجموعة شعرًا باللفظ الصريح. ولكنها تدور حول الاسم فتقول إنه "شعر منثور" أو "نثر فني" وهي مع ذلك تعجب به وتقبل على قراءته، ليس على أساس أنه نثر يعالج موضوعات أو يروي قصة أو حديثًا، بل على أساس أنه مادة شعرية. لكنها ترفض أن تمنحه اسم الشعر.

وهذا طبيعي، من وجهة نظر تاريخية، بالنسبة للقراء العاديين. أما النقد فيجب أن يكون أكثر جرأة - أن يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقة. وأنا أعتبر هذا "النثر الشعري" شعرًا".

وقبل أن نلخص مضمون كلام الكاتبة نحب أن نقتطف للقراء نموذجًا من خواطر محمد الماغوط مؤلف الكتاب الذي تتحدث عنه، ليلاحظ القارئ أنه نثر طبيعي كالنثر، على الرغم من أن كاتبه ينثره مفرقًا على أسطركما لو أنه كان شعرًا حرًّا. ولسوف نكتب هذا النثر كما ينبغي أن يكتب النثر، راجين أن يعذرنا كاتبه. قال الكاتب: "وهو يملك ذوقًا أدبيًّا جميلًا وأصالة تسيء إليها الروح الأوروبية المصطنعة التي يدخلها قسرًا على عباراته وخواطره" قال من خاطره سماها "المسافر":

"بلا أمل. بقلبي الذي يخفق كوردة حمراء صغيرة، سأودع أشيائي الحزينة في ليلة ما: بقع الحبر وآثار الخمرة الباردة على المشمع اللزج، وصمت الشهور الطويلة، والناموس الذي يمص دمي هي أشيائي الحزينة، وسأرحل عنها بعيدًا، وراء المدينة الغارقة في مجاري السل والدخان بعيدًا عن المرأة العاهرة التي تغسل ثيابي بماء النهر وآلاف العيون في الظلمة تحدق في ساقيها الهزيلين، وسعالها البارد يأتي ذليلًا يائسًا عبر النافذة المحطمة. والزقاق الملتوي كحبل من جثث العبيد".

على هذا النمط جرت الخواطر في هذا الكتاب، فيها صور غريبة وتخير للألفاظ وتلوين، غير أنها مكتوبة نثرًا اعتياديًّا كالنثر في كل مكان وزمان. ولذلك يلوح غريبًا أن دار مجلة شعر التي طبعت الكتاب قد أباحت لنفسها أن تضع عنوان الكتاب على غلافه بهذا الشكل:

حزن في ضوء القمر.

شعر.

وكأن تسمية النثر شعرًا مسألة بديهية مفروغ منها. ولعله لا يخفى على أصحاب الدار أن مئات القراء لا يملكون حاسة الوزن ليدركوا أن هذا نثر لا سعر حر، ومن ثم فقد كان عليها -على الأقل- أن تصدر الكتاب بمقدمة تضع فيها تبريرًا يسوغ تسمية النثر شعرًا، فإن ذلك يمنح القارئ حريته، فإما أن يقبل أو أن يرفضومهما يكن من أمر فإن كلام خزامى صبري الذي اقتطفناه يتضمن، في مفهوم النقد الموضوعي، الحقائق التالية:

"أولًا" تميز خزامى صبري بين شيئين هما:

أ- الوزن التقليدي وهو الوزن مطلقًا.

ب- الوزن غير التقليدي وهو النثر.

"ثانيًا" تقول خزامى صبري إن الشعر شيء لا صلة له بالوزن والقافية. وإنما الوزن صفة عارضة يمكن أن يقوم الشعر من دونها، ولذلك يتحدث أصحاب هذه الدعوة باحتقار عن الشعر "الموزون" وبذلك لا يكتفون برفع النثر إلى جوار الشعر ومساواته وإنما يزيدون فيزيدون الموزون ويعطون لنثرهم الفضل كله. قال أحد دعاة هذه الفكرة الهجين:

"ولذلك فإن شعر توفيق صائغ لا يخسر شيئًا باطّراحه شكل القصيدة التقليدي، بل يحقق الطريقة الوحيدة التي تمكنه من قضيته".

هذه هي خلاصة دعوة مجلة"شعر" التي تصدر في بيروت بلغة عربية وروح أوروبية. وقد دعت إليها في عنف وأثارت حولها ضجيجًا متصلًا خلال السنين الماضية، وتطرف حاملو الدعوة فذهبوا إلى أن المستقبل الأوحد إنما هو لهذا "الوزن غير التقليدي" كما يسمونه، أو "الوزن غير الموزون" كما اقترحت عليهم، على سبيل الدعابة، أن يسموه.

التدليس في مجلة شعر اللبنانية

 كتبت مجلة "شعر" أن شعراء معروفين يذهبون إلى "أن المستقبل إنما هو لهذا الشعرالحديث الذي يبتعد في شكله ومضمونه عن الفترة السابقة وما قبلها". وكتب جبرا إبراهيم جبرا أن السنين القادمة "سترى ولا شك تغلب الشعر الحر". ولنلاحظ أنه أخذ، دون مبالاة، اصطلاحنا "الشعر الحر" الذي هو عنوانه حركة عروضية تستند إلى بحور الشعر العربي وتفعيلاتها، أخذ اصطلاحنا هذا وألصقه بنثر اعتيادي له كل صفات النثر المتفق عليها، وليس فيه أي شيء يخرجه عن النثر في المصطلح العربي، وليته على الأقل ترك اصطلاحنا ووضع غيره حرصًا على وضوح الاصطلاحات في أذهان جماهيرنا العربية المتعطشة للمعرفة. وإنما سمينا شعرنا الجديد "بالشعر الحر" لأننا نقصد كل كلمة في هذا الاصطلاح فهو "شعر" لأنه موزون يخضع لعروض الخليل ويجري على ثمانية من أوزانه، وهو "حر" لأنه ينوع عدد تفعيلات الحشو في الشطر، خالصًا من قيود العدد الثابت في شطر الخليل. فعلى أي وجه تريد دعوة النثر أن تسمي النثر شعرًا؟ وما هذه الفوضى في المصطلح والتفكير لدى الجيل الذي يقلد أوروبا في كل شيء تاركًا تراث العرب الغني المكتنز؟

إن المضمون الواضح لهذه الحماسة من أصحاب الدعوة هو أن النثر سائر، في رأيهم، إلى أن يقتل الشعر، وأن دولة الوزن ستدول فيكتب شعراء الأمة العربية نثرًا وننتهي من الوزن. وهكذا يذهب هؤلاء المتحمسون الخياليون إلى أن الشعر شيء عتيق ينبغي أن يزول ويحل محله النثر، على أن … - انتبه أيها القارئ فإنه يشترطون شروطا- على أن يحتفظوا بالكلمات "شعر" و"شاعر" و"وزن" لأنهم يريدونها لتسمية النثر والناثر وما يكتب. وهذا يبدو لنا من أعجب المفارقات، والحق يقال.

والأساس النفسي في هذه الدعوة أن هؤلاء الكتَّاب الفاضل، الذين يحسنون إبداع نثر جميل أحيانًا، يزدرون ما يمتلكون من موهبة ويتطلعونإلى ما لا يملكون. إنهم، باختصار، لا يحترمون النثر، وذلك هو أساس الإشكال الذي وقعوا فيه. إنهم مهما أبدعوا من صور وأفكار في قالب نثري، يحسون أنهم ما زالوا أقل إبداعًا من شاعر يخلق هذا الجمال نفسه، ولكن بكلام موزون. ولذلك تراهم يعبرون عن ازدرائهم بموهبتهم بإطلاق كلمة "شعر" على ما يكتبون وكانوا في السنين الخالية يقولون "شعر منثور" مشيرين بكلمة "منثور" على الأقل إلى أنه "نثر" فأصبحوا اليوم من الاستهانة بالمقاييس الموضوعية، بحيث يجرءون على أن يسموه شعرًا على الإطلاق. لا بل إنهم أصبحوا يحتقرون الشعر ويسمونه "تقليديا" لكي يجعلوا الإبداع والتجديد قاصرًا على نثرهم المبتكر، فهو الشعر الأوحد برغم المقاييس كلها.

ولعله واضح أن دواء هذا الإشكال أن يمتلك هؤلاء الكتاب الثقة بالنثر. فمن قال لهم إن النثر وضيع أو إنه لا يمنح قائله صفة الإبداع؟ ولماذا يحسبون أن نثرهم لا يكتسب الإعجاب إلا إذا هو مسخ ذاته وسمي نفسه "شعرًا"؟ ولنفرض أننا وافقناهم وسمينا نثرهم شعرًا، فهل ترى الاسم يغير من حقيقته شيئًا؟ أو يزيده تغير الاسم شرفًا أو جمالًا؟

والذي يعرفه الملايين أن كثيرين من كتاب العربية قد كتبوا النثر "الشعري" ولنا في العصر الحديث منهم طائفة مرموقة مثل أديب العربية الفذ مصطفى صادق الرافعي والكاتب المرهف جبران خليل جبران وغيرهما كثير، وليس ينقص من قيمة ما كتبوا أنه نثر لا شعر. ولقد كانوا يسمون نثرهم نثرًا دون أن يسيئوا إليه في شيء. وبعد فهل أجمل من القرآن في اللغة العربية؟ والقرآن نثر لا شعر، وفيه، مع ذلك، كل ما في الشعر من إيحائية وخيال وثاب وصور معبرة وألفاظ مختارة اختيارًا معجزًا، فهل ينقص من قيمة القرآن الجمالية أنه نثر لا شعر؟ وأي شعر في الدنيا أروع وأحب من هذا النثر القرآني البديع؟

وخلاصة الرأي أن للنثر قيمته الذاتية التي تتميز عن قيمة الشعر، ولايغني نثر عن شعر ولا شعر عن نثر، لكل حقيقته ومعناه ومكانه. فلماذا جاء الناثر المعاصر ليزدري النثر ويحاول رفعه بتسميته شعرًا؟

هذا هو السؤال. ونحن نوجهه إلى أنصار هذه الدعوة لعل له عندهم، من جواب.

وخلال ذلك، نحب أن نتفرغ لمناقشة هذه الدعوة وسوف تكون مناقشتنا في اتجاهين: أحدهما على أساس اللغة والآخر على أساس النقد الأدبي

‌‌المناقشة اللغوية لقصيدة النثر


تقع دعوة "قصيدة النثر" في خطإ كبير هو أنها تطلق كلمة "شعر" على الشعر والنثر معًا، فإذا نظم شاعر قصيدة من البحر المنسرح ذات شطرين وقافية موحدة، كانت لديهم شعرًا، وإذا كتب ناثر فقرة نثرية خالية من الوزن والقافية تمام الخلو كان ذلك، في حسابهم، شعرًا أيضًا. فلا فرق إذن بين الشعر والنثر لأنهما كليهما يسميان في عرفهم شعرًا، وعلى هذا يكون كتاب الرافعي "رسائل الأحزان" شعرًا مثل معلقة امرئ القيس تمامًا، لا فرق بينهما. وما ذلك إلا لأن الدعوة لا تؤمن بوجود صلة بين الوزن والشعر فالكلام يكون شعرًا سواء أكان موزونًا أم لم يكن. لا بل إن النثر -لديهم- أكثر شعرية من الشعر؛ لأن وزن الشعر تقليدي كما سبق أن رأينا من أحكام خزامى صبري وجبرا إبراهيم جبرا. وهكذا نجد أنصار هذه الدعوة يلغون الفرق بين الموزون وغير الموزون إلغاء تامًّا، ومن ثم يحق لنا أن نسألهم: لماذا إذن ميزت لغات العالم كلها بين الشعر والنثر؟ وما الفرق بين الشعر والنثر إن لم يكن الوزن هو العنصر المميز؟

إن هذا يسوقنا إلى أن نرجع بأذهاننا إلى الأصل الفكري للتسميات اللغوية ولسوف نلاحظ أن التسمية تقصد في الأصل تشخيص نواحي الخلاف بين الأشياء لا نواحي الشبه. فإذا قلنا "الليل والنهار" أو "الشعر والنثر"فإن أحد الاسمين في كل فريق يشخص الناحية الكبرى التي يختلف بها عن قرينه. إن الليل والنهار يتشابهان في أنهما كليهما يحتويان، في المتوسط، على اثنتي عشرة ساعة، كما أن الشعر والنثر يتشابهان في أن كلًّا منهما يحتوي على عواطف إنسانية وصور معبرة في المتوسط. غير أن قولنا الليل والنهار لا يثير في أذهاننا مسألة عدد الساعات هذه كما أن قولنا الشعر والنثر لا يثير لدينا مسألة المحتوى العاطفي والجمالي، وإنما تشخص التسميات الأربع خصائص أكبر من هذه وأوضح، تشخص الظلام في الليل والضياء في النهار، كما تشخص الوزن في الشعر وعدم الوزن في النثر. ومن ثم فإذا نحن سمينا كل كلام شعرًا بمعزل عن فكرة الوزن، فسوف نكون كمن يسمي الحياة كلها نهارًا سواء أكان فيها ضياء أم لا. وإنه لواضح أنها تسمية مفتعلة. إن الليل ليل، والنثر نثر. وواجبنا نحو اللغة والذهن الإنساني أن نسميهما ليلًا ونثرًا دون أن ننتحل لهما تسميات مضللة لا تشخص شيئًا. وما الذي نستفيده من تسمية النثر شعرًا والليل نهارًا يا ترى؟ أو ليس تشخيص الفروق أحسن من ذلك وأجدى؟

إن اللغة، التي هي محصول الذهن الإنساني عبر عشرات القرون، لا تضع الأسماء اعتباطًا ولا عبثًا، وإنما هناك مفهوم فلسفي عام يكمن وراء كل تعريف وتسمية، في كل لغة. تحاول اللغة أن تشخص الملامح البارزة وترمي بذلك إلى تصنيف الأشياء تصنيفًا يسهل على العقل مهمة التفكير، ويعطي الإنسانية مجالًا للتعبير عن منطقها وفكرها. فما نكاد نلفظ كلة النهار في أية لغة حتى يشرق الضوء في الذهن الإنساني وتنبسط فكرة النور، وما نكاد نلفظ كلمة الشعر حتى ترن في ذاكرة البشرية موسيقى الأوزان وقرقعة التفعيلات ورنين القوافي. واليوم جاءوا في عالمنا العربي ليلعبوا لا بالشعر وحسب وإنما باللغة أيضًا وبالفكر الإنساني نفسه ومنذ اليوم ينبغي لنا، على رأيهم، أن نسمي النثر شعرًا والليل نهارًا لمجرد هوى طارئ في قلوب بعض أبناء الجيل الحائرين الذين لا يعرفون ما يفعلون بأنفسهم

ولست أظنني أبالغ حين أحكم بأن هذه المحاولة تكاد تكون تحقيرًا للذهن الإنساني الذي يحب بطبعه تصنيف الأشياء وترتيبها. فإذا أطلقنا اسمًا واحدًا على شيئين مختلفين تمام الاختلاف فما وظيفة الذهن الإنساني؟ وإذن فلماذا لا نرتد إلى فترات الجاهلية اللغوية، يوم لم تكن هناك أسماء للأصناف؟ وإنما التصنيف وتسمية الأصناف نتاج الحياة الفكرية للأمم، كلما كانت الأمة أعرق في الفكر والحضارة، كانت تفاصيل التسميات أكثر وأدق. وعلى هذا لا تكون تسمية النثر شعرًا أكثر من نكسة فكرية وحضارية يرجع بها الفكر العربي إلى الوراء قرونًا كثيرة.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد وحسب، وإنما نجد له جذورًا تمس الجانب الاجتماعي للغة. فلعلنا نستطيع أن نلاحظ كلنا أن تسميتنا للنثر "شعرًا" هي، في حقيقة الأمر، كذبة لها كل ما للكذب من زيف وشناعة، وعليها، أن تجابه كل ما يجابهه الكذب من نتائج. والكذبة اللغوية لا تختلف عن الكذبة الأخلاقية إلا في المظهر، إن كل كذبة سائرة إلى أن تنكشف أمام عيون الطبيعة الصادقة التي لا تنطق إلا بالحق وبالاستقامة، واللغة الإنسانية، كل لغة، هي الصدق في أنقى معانيه وأسماها. إنها واقعية لأنها تسمي الأشياء بأسمائها الحقة، فلا تخون ولا تكذب ولا تزيف، وهكذا نجد الكرسي يسمي كرسيًّا لأن هذا الاسم يعطينا صفته في الأحوال كلها ولا يكذبنا قط. والنثر يسمى في اللغة نثرًا لأن اسمه هذا يعطينا صفة النثر، كما أن الشعر يسمى شعرًا ليعطينا صفة الشعر، وهذا الصدق المطلق في اللغة يكسبها ثقتنا وإجلالنا، وهو أيضًا يحمينا نحن الذين نتكلم هذه اللغة من أن نكذب، فنحن نشدها إلينا ونلوذ بصدقها في ساعات الضيق. فإذا هوجم شاعر بأنه يكتب نثرًا لا شعرًا، وجد أمامه هذه اللغة الصادقة ذات التعابير المحددة الصريحة المستعدة لحمايته فيلوذ بها ويقول لمن يتهمه إن إنتاجه شعر لا نثر. وهو في هذه الحالة يستعمل رصيد "الشعرية" الذي تملكه لفظة "شعر" في أذهان الناس. وهمينسبون إلى ما يكتب كل صفات الشعر فورًا بمجرد أن يقول لهم ذلك.

والحق أن لغتنا العربية لن تحمينا يعد اليوم. ذلك أن هنالك اليوم أناسًا يكتبون النثر ويسمونه في جرأة عجيبة شعرًا، حتى فقدت كلمة شعر صراحتها ونصاعتها. ولسوف يتشكك الجمهور في أي شعر نقدمه له باسم "الشعر" لأن لفظ شعر قد تبلبل معناه واختلط وضاع. والواقع أن هذه الكذبة، وكل كذبة مثلها، خيانة للغة العربية وللعرب أنفسهم بالتالي. إن اللغة التي يستعملها أناس غير صادقين سرعان ما تتلوث بالكذب وتفسد. وعندما تكشف الحياة، أو الضمير اللغوي العام الكامن في النفس البشرية – أن كلمة "شاعر" قد أصبحت نعتًا للناثر، فإنها ستضطر إلى الشك في كلمة "شاعر" وكلمة "شعر". فمهما أكد الناس أنهم ينظمون شعرًا فلن يصدقهم أحد قبل التثبت الأكيد.

وما معنى هذه النتيجة؟ معناها أننا لن نزيد على أن نخسر كلمة مهمة من كلمات اللغة فتموت كلمة "شعر". ومن الطبيعي ألا يعني ذلك أن الشعر نفسه سيموت. فلو زالت الكلمة من القاموس العربي لبقي الناس ينظمون الشعر مع ذلك. فإنما اللغة رموز تذهب وتجيء. وأما الحقائق التي تكمن وراء تلك الرموز فإنها لا تموت على الإطلاق. إن الحقيقة لا تزيف مهما تلاعبنا باسمها. بلى نستطيع أن نزيف كلمة ناصعة بأن نطلقها على ما لا تمثله في الأصل، ولكننا بذلك سنقتل الكلمة نفسها، وأما الحقيقة فسوف تبقى ناصعة. وسرعان ما ستجد تلك الحقيقة لنفسها اسمًا آخر جديدًا فيه النصاعة اللازمة. وبهذا تخلد الحقيقة وتسقط الكلمة.

ولسوف يجد دعاة "قصيدة النثر" أنفسهم حيث بدءوا، فلقد استحال معنى كلمة "شعر" إلى التعبير عن النثر كما أرادوا، غير أن الشعر وجد لنفسه اسمًا آخر صادقًا ينص على الوزن الذي حاولوا قتله. ولسوف يبقى الناثرون حيث كانوا مع الناثرين

مناقشة قصيدة النثر على أساس النقد الأدبي:


يبدو لنا أن دعوة النثر، في أحكامها على الشعر، تستند إلى تعريف له يضع الإلحاح كله على المحتوى أو "المضمون". فالشعر، في نظر أصحاب هذه الدعوة ليس إلا معاني من صنف معين، فيها خيال وعاطفة وصور، وسواء بعد ذلك أن يكون موزونًا أو غير موزون؛ لأن الوزن، في رأيهم، ليس شرطًا في الشعر. وعلى هذا الأساس يكون للشعر في نظرهم عنصر واحد هو المضمون. فإذا أردنا أن نستخلص للشعر تعريفًا مشتقًّا من آرائهم هذه قلنا إنه "تجمع معانٍ جميلة موحية فيها الإحساس والصور".

ومن الواضح أن مفهومهم هذا للشعر يقف في الطريق الأقصى المواجه للتعريف العربي القديم الذي كان يحدد الشعر بأنه "الكلام الموزون المقفى" وهو تعريف يجعل الوزن الأساس الأعظم للشعر دون اعتراف بالمضمون. والحقيقة أن كلا التعريفين قاصر ناقص: التعريف الجديد يهمل الشكل والتعريف القديم يهمل المضمون. فكأن هؤلاء المعاصرين أرادوا تصحيح مفهوم غالط قديم فوقعوا في مفهوم غالط جديد. ولا يخفى علينا أن غلط التعريف الجديد أشد وأكبر من غلط تعريف أسلافنا.

وأما إذا أردنا أن نرجع إلى صوت الواقع في أنفسنا، وأن نحكم عقولنا فلسوف ننتهي إلى أن للشعر ركنين ضروريين لا بد منهما في كل شعر وهما:

1- النظم الجيد "الشكل" أو "الوزن".

المحتوى الجميل الموحي، المتموج بالظلال 2- الخافتة والإشعاع الغامض الذي تنتشي له النفس دون أن تشخص سر النشوة.

وإنه لمن المؤسف أن كلمة "نظم" قد أصبحت تزدري في عصرنا وكأنها إهانة يُسب بها الشاعر. والواقع أنها كلمة جليلة، لا بد لكل شاعر من أن يملك ناصيتها. ذلك أن الشاعر المبدع لا بد أن ينطوي على ناظممتمكن بارع وإلا لم يكن شاعرًا. والنظم هو المرحلة الأولى في كل شعر. وأما أن هناك أناسًا ينظمون شعرًا موزونًا يخلو من عبقرية الإبداع ورعشة الموسيقى فإن ذلك لا يهين كلمة "النظم".

 إن كل شاعر ناظم بالضرورة، وليس كل ناظم شاعرًا، وذلك لأن الشعر أعم من النظم، فهو يحتويه دون أن يقتصر عليه. 

وواقع الأمر أن الناس، بالنسبة للشعر ثلاثة:


  1.  إنسان يتذوق الشعر ويطرب له إلا أنه لا يميز الموزون من المختل وقد يمر على غلط عروضي فلا يدركه. ومن هذا الصنف كثير من الناس.
  2.  إنسان ينظم الموزون نظمًا متقنًا جاريًا على قواعد العروض دون أن تنبض منظوماته بالجمال أو تتفجر بدفء الإبداع. وهذا هو الناظم.
  3.  إنسان يحسن النظم ويتقنه حتى ليوجع النشاز سمعه وروحه وهو فوق ذلك يمتلك موهبة تفكير الموسيقى والسحر فيما ينظم. وهذا هو الشاعر. وهو في هذا الباب في المرتبة الأولى من أصناف الناس.

والذي لا ريب فيه أن الناظمين أناس ذوو موهبة وإن لم تكن موهبتهم كاملة، ولذلك ينبغي لنا أن نحترم موهبتهم، وأن نثني عليهم بما يستحقون. نقول هذا ونحن نرى الاتجاه لدى طائفة من الشعراء اليوم إلى احتقار الناظمين والتشنيع عليهم. وإنما الحق أن ينظر هؤلاء الشعراء إلى أنفسهم ليكملوا ما ينقصهم من عدة الناظم ومقدرته. فما قيمة شعر جميل الصورة ولكن أوزانه تتعثر بالسقطات؟ إن الناظم الذي يحسن النظم أجدر بإعجابنا، لو أنصفنا، من شاعر لا يحسن النظم. ذلك أن الأول بصفة كونه ناظمًا، قد استكمل عدة فنه حين أتقن النظم وضبط أصوله. وأما الشاعر فإنه، وهو يجهل قواعد النظم، إنما يفتقد جزءًا مهمًّا من عدة الشاعر؛ لأن الوزن هو الروح التي تكهرب المادة الأدبية وتصيرهاشعرًا، فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف، لا بل إن الصور والعواطف لا تصبح شعرية، بالمعنى الحق، إلا إذا لمستها أصابع الموسيقى، ونبض في عروقها الوزن.

هذا مجمل رأينا، والواضح أن أنصار "قصيدة النثر" يخالفوننا فيه. وإنما الوزن، في عرفهم، مجرد شكل خارجي عارض اصطلح الأقدمون عليه، فلو حذفناه وكتبنا الشعر من دونه لأنقذنا شعرنا من التقليد وجئنا بشيء طريف.

وإننا لنحب أن نسألهم، على ذلك، سؤالًا لعل له عندهم جوابًا: ترى إذا استطاع ناثر وشاعر أن يعبرا، كلٌّ بأسلوبه الشخصي، عن عين الكمية من الصور والعواطف والأخيلة، فأيهما سيهز السامعين هزًا أشد؟ أيهما سيبعث فيهم مقدارًا من النشوة أكبر، وإلى أيهما سيستجيب الذوق الإنساني استجابة أرهف وأحر؟ أما في رأينا فإن الجواب واضح وبديهي. إن الموزون الطافح بالصور والأخيلة والعواطف سيملك قلوبنا ويهزنا ويثيرنا أكثر من النثري الطافح بنفس المقدار من الجزئيات. وذلك لأن عنصرًا جماليًّا جديدًا قد أضيف إليه هو الموسيقى والإيقاع.

والسبب المنطقي في فضيلة الوزن، هو أنه، بطبعه، يزيد الصور حدة، ويعمق المشاعر ويلهب الأخيلة. لا بل إنه يعطي الشاعر نفسه، خلال عملية النظم نشوة تجعله يتدفق بالصور الحارة والتعابير المبتكرة الملهمة. إن الوزن هزة كالسحر تسري في مقاطع العبارات وتكهربها بتيار خفي من الموسيقى الملهمة. وهو لا يعطي الشعر الإيقاع وحسب وإنما يجعل كل نبرة فيه أعمق وأكثر إثارة وفتنة. ولذلك كان الشعر مؤثرًا بحيث كان القدماء يعدونه ضربًا من السحر يسيطر به الشاعر على الجماهير. وقديمًا كان الشعر قرين أصحاب الرؤى والكهان وحتى الأنبياء إلى درجة جعلت القرآن الكريم يبرئ الرسول في الآية {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}ولا ريب في أن النثر، بافتقاره لهذه الموسيقى المؤثرة، يفقد خاصية يتفوق بها الشعر عليه في إثارة المشاعر ولمس القلوب. ولذلك كان النثر، في الغالب، قرين البحث العلمي والدراسة الموضوعية، حتى أصبحنا نصف الشعر الذي لا يطربنا بأنه "نثري". والحقيقة التي لا مفر لنا من مواجهتها أن الناثر، مهما جهد في خلق نثر تحتشد فيه الصور والمعاني، يبقى قاصرًا في اللحاق بشاعر يبدع ذلك الجمال نفسه ولكن بكلام موزون. فالوزن في يد الشاعر قمقم سحري يرش منه الألوان والصور على الأبيات المنغومة، هيهات للناثر أن يستطيع ذلك بنثره. أترى دعاة قصيدة النثر ينكرون أن خواطر محمد الماغوط التي اخترناها تكون أجمل لو نظمت شعرًا لا نثرًا؟ نقول ذلك لا لننتقص من تلك الخواطر وإنما لمجرد أنها كتبت نثرًا وتطاولت إلى أن تسمي نفسها شعرًا، وإنما النشوة والموسيقى والدفء من مصاحبات الوزن، فمن رغب فيها فليكن شاعرًا وليعرف كيف يرقرق معانيه في قصائد متدفقة. وبعد، فليس يعيب النثر أنه ليس شعرًا، وأن الموسيقى ملازمة للشعر لا له. إن تلك هي طبيعة الأشياء وكلٌّ لما خلق له.

وفي وسعنا ختامًا، أن نلخص تعريف الشعر إنه ليس عاطفة وحسب، وإنما هو عاطفة ووزنها وموسيقاها. وعلى ذلك فإن قدرة الناثرين على حشد العواطف والصور في نثرهم لا يقرب ما يكتبون من الشعر أي تقريب. وإنما جمال ما يكتبون مرتبط بكونه نثرًا، ولن يكون شعرًا إلا إذا نجحوا في صياغته شعرًا. وتلك موهبة الشاعر دون الناثر وهو أمر يترك خارجًا مهما قالوا ومهما جهدوا.

وأحب أن أذكر أصحاب الدعوة أخيرًا بأنهم، بعد كل ما قالوا وكتبوا وضجوا، ما زالوا هم أنفسهم مضطرين إلى التمييز بين الشعر والنثر. وهذه خزامى صبري نفسها، في فقرتها التي اقتبسناها، تتحدث عما تسميه "وزنًا تقليديًّا" -تقصد الشعر- ووزنًا غير تقليدي -تقصدالنثر. فلا نراها فعلت أكثر من استبدال الكلمتين العربيتين الدالتين: "شعر ونثر" باصطلاحات معقدة جديدة فيها عموم وغموض. وهل حقًّا إن قولهم "وزن تقليدي" أحسن من قولنا "شعر"؟ أم ترى قولهم "وزن غير تقليدي" يصلح اسمًا للنثر؟ ولماذا اضطروا إلى التمييز بين الاثنين؟ والواقع الذي لا جدال فيه، أنهم إذا لم يعترفوا بأن الشعر شعر، والنثر نثر، فلا بد أن يعترفوا بأن بينهما فرقًا واضحًا. وهذا يدحر كل مناقشة قد يوردونها. إن هناك شيئًا اسمه الوزن، وهو يفرض عليهم نفسه مهما تجاهلوه



المصادر

قضايا الشعر المعاصر

نازك الملائكة




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-