وزن الشعر الحر


وزن الشعر الحر



أساس الوزن في الشعر الحر أنه يقوم على وحدة التفعيلة،والمعنى البسيط الواضح لهذا الحكم أن الحرية في تنويع عدد التفعيلات، أو أطوال الأشطر تشترط بدءًا أن تكون التفعيلات في الأشطر متشابهة تمام التشابه.

 فينظم الشاعر، من بحر الرمل ذي التفعيلة الواحدة المكررة، أشطرًا تجري على هذا النسق.



وزن الشعر الحر



فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

فاعلاتن فاعلاتن

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

فاعلاتن

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

فاعلاتن فاعلاتن

ويمضي على هذا النسق، حرًّا في اختيار عدد التفعيلات في الشطر الواحد، غير خارج على القانون العروضي لبحر الرمل، جاريًا على السنن الشعرية التي أطاعها الشاعر العربي منذ الجاهلية حتى يومنا هذاومن تفريعات هذا القانون البسيط أنه يمكن نظم الشعر الحر بتكرار أية تفعيلة مكررة في الشطر العربي المعروف، 

سواء أكان البحر صافيًا مثل 

المتقارب:

فعولن فعولن فعولن فعولن

أو ممزوجًا مثل

 السريع:

مستفعلن مستفعلن فاعلن

فإنما تكون الحرية، في الشعر الحر، في حدود التفعيلة المكررة في أصل الشطر العربي فإذا كانت التفعيلة منفردة في الشطر، كما في "فاعلن" في شطر السريع لم يصح للشاعر أن يخرج عليها، فلابد له أن يوردها في مكانها، أي في ختام كل شطر من قصيدته الحرة ذات البحر السريع. وإنما حدود حريته أن يزيد عدد التفعيلة "مستفعلن" -المكررة في أصل الشطر- وينقصها فيقول في قصيدته مثلًا:

مستفعلن فاعلن

مستفعلن مستفعلن فاعلن

مستفعلن فاعلن

مستفعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن

مستفعلن مستفعلن فاعلن

مستفعلن فاعلن

وينبغي للشاعر أن يتذكر دائمًا أن أي شطر في مثل هذه القصيدة، ينتهي بتفعيلة غير "فاعلن" إنما هو شطر ناشز مغلوط فيه يخرج على قانون الأذن العربية خروجًا منفرًا.

والواقع أن نظم الشعر الحر، بالبحور الصافية، أيسر على الشاعر من نظمه بالبحور الممزوجة؛ لأن وحدة التفعيلة هناك تضمن حرية أكبروموسيقى أيسر فضلًا عن أنها لا تتعب الشاعر في الالتفات إلى تفعيلة معينة لا بد من مجيئها منفردة في خاتمة كل شطر.

وحدة التفعيلة في الشعر المعاصر:


في الفقرة السابقة استقرأنا القانون البسيط الذي ينبغي أن يجري عليه كل شعر حر سليم. ولو التفت إليه الشعراء لما وقع طائفة منهم في الأخطاء والنشوز. ولعل الشعر الحر لو نشأ في عصور العروبة السابقة لكان له شأن آخر. فقد كان الشعراء كثيري القراءة للشعر العربي السليم بحيث يتحسسون عروض الشعر ويسلمون من الخطإ ولو لم نضع لهم قانونًا يطيعونه. ذلك فضلًا عن أن دراسة العروض كانت جزءًا من ثقافة المثقف وأدب المتأدب.

ومهما يكن من أمر الظروف والأسباب، فإن الناشئين من الشعراء المعاصرين -وحتى بعض الراسخين- لم يشخصوا معنى الحرية في الشعر الحر تشخيصًا واضحًا، ولم يعرفوا من الأشطر العربية، موضع التكرار الذي تبيحه الحرية الجديدة، ولعلهم ظنوا أنها حرية مطلقة لا ضابط لها، وأنها تبيح حتى الخروج على ما تقبله الأذن العربية والعروض الدارج، ولذلك نجدهم خلطوا بين بحور الشعر نفسها فنظموا قصائد حرة تجاورت فيها أشطر من البحر السريع وأخرى من الرجز كما في الفقرة التالية لسعدي يوسف:

يا طائرًا أضناه طول السفرْ

قلبي هنا في المطرْ

يرقب ما تأتي به الأسفارْ

إن الشطر الثالث في هذه القطعة خارج على البحر السريع الذي كان منه الشطران الأولان كما نلاحظ إذا نحن وزنَّا الأشطر:

مستفعلن مستفعلن فاعلن

مستفعلن فاعلن

مستفعلن مستفعلن مفعولْ

وإنما هو بحر الرجز لأن "مفعولن" لا ترد في ضرب السريع على الإطلاق وإنما هي مما يرد في الرجز بحسب قواعد العروض العربي.

على أن قانوننا البسيط للشعر الحر لا يحوج الشاعر حتى إلى أن يتعلم أسماء البحور. فإنما ندرك أن "مفعولْ" ناشزة هنا لمجرد أنها واردة في مكان "فاعلن" التي التزمتها الأشطر الباقية، وكانت تفعيلة منفردة تفرض نفسها على مكانها المعين من كل شطر. إن "مفعول" لا يصح أن ترد هنا، ذلك حتى لو فرضنا جدلًا أنها يمكن أن ترد في ضرب السريع. وسبب هذا أن الشاعر قد سبق له أن عين لنفسه خاتمة كل شطر فلا مفر له من الالتزام بها مهما كانت الظروف؛ لأن ذلك هو قانون العروض العربي.

ولعل من الضروري أن نلفت النظر، في ختام هذا الفصل عن التفعيلات، إلى أن الشطر الأول في القصيدة الحرة يعين للشاعر ضرب كل شطر تالٍ يرد فيها، سواء أكان البحر صافيًا أم ممزوجًا. ومعنى هذا أن وحدة الضرب قانون جار في القصيدة العربية مهما كان أسلوبها: شطرين أو شطرًا ثابت الطول، أو شطرًا متغير الطول من بحر صاف، أو شطرًا متغير الطول من بحر ممزوج، ففي الحالات كلها ينبغي أن تحافظ على ثبات الضرب. وإنما تنحصر الحرية التي نملكها في حشو الشطر

 بحور الشعر الحر وتشكيلاته:


1- أوزان البحور:

يجوز نظم الشعر الحر من نوعين من البحور الستة عشر التي وردت في العروض العربي هما:

أ- البحور الصافية:


وهي التي يتألف شطراها من تكرار تفعيلة واحدة ست مرات وهذه هي:

الكامل، شطره "متفاعلن متفاعلن متفاعلن".

الرمل، شطره "فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن".

الهزج، شطره "مفاعيلن مفاعيلن".

الرجز، شطره "مستفعلن مستفعلن مستفعلن".

ومن البحور الصافية بحران اثنان يتألف كل شطر فيهما من أربع تفعيلات وهما

المتقارب، شطره "فعولن فعولن فعولن فعولن".

المتدارك، شطره "فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن".

أو "فعلن فعلن فعلن فعلن".

وينبغي لنا أن نضيف هنا وزن "مجزوء الوافر" "مفاعلتن مفاعلتن" فإنه من البحور الصافية وشطره تفعيلتان.

كما أنني، في سنة 1974 قد وفقت إلى ابتكار وزن صافٍ جديد يجري هكذا:

مستفعلاتن مستفعلاتن

مستفعلاتن مستفعلاتن

وقد اشتققته من الوزن الخليلي لمعروف المسمى "مخلع البسيط". لأنني لاحظت أن هذا الوزن لو قسمناه إلى قسمين لكان كما يلي:

مستفعلن فا

علن فعولن

وهي صورة يزيد قسمها الأول حرفًا على قسمها الثاني، فإذا أردنا أن يكون القسمان متساويين كان علينا أن نقول "مستفعلن مفعولن فعولن" ولكنه -بهذه الصيغة- ينقسم إلى قسمين متساويين في الواقع، مختلفين في الصيغة. أما حين نريد أن تكون الصيغة أيضًا مضبوطة فإن علينا أن نقول "فعلن فعولن فعلن فعولن".

ولقد لاحظت أن هذا الوزن -بزيادة حرف واحد على مخلع البسيط- يكون بحرًا صافيًا وحدته تفعيلتان، ويمكن نظم الشعر الحر منه باعتبار الوحدة تفعيلتين اثنتين كما في الطول والبسيط. غير أن توحيد التفعيلتين في تفعيلة واحدة ممكن بإضافة سبب خفيف إلى التفعيلة "مستفعلن" وبذلك تصير "مستفعلاتن"، ويصبح الوزن كما يلي

مستفعلاتن مستفعلاتن

مستفعلاتن مستفعلاتن

وهو وزن صاف يمكن استعماله في الشعر الحر في حرية تامة. والخروج الوحيد فيه على أسلوب الخليل في صياغة التفعيلات أننا أوردنا تفعيلة فيها علة زيادة في حشو البيت. ولكن قولنا "مستفعلاتن" ذا التفعيلة الواحدة أيسر على شاعر الشعر الحر من قولنا "فعلن فعولن" ذا التفعيلتين. وذلك يبرر مخالفتنا لطريقة الخليل مبدع العروض العربي كله.

ولقد جربت استعمال هذا الوزن الجديد في ثلاث قصائد حرة أوضحها "نجمة الدم" التي صورت فيها أحداث لبنان الدامية سنة 1975 وقد قدمت هذا الوزن الجديد أول مرة إلى الجمهور داعيةً الشعراء إلى استعماله، في مجموعتي الشعرية "يغير ألوانه البحر" الصادرة ببغداد عام 1977 وبذلك أصبح عدد البحور الصافية ثمانية بحور.

ب- البحور الممزوجة:


وهي التي يتألف الشطر فيها من أكثر من تفعيلة واحدة على أن تتكرر إحدى التفعيلات. وهما بحران اثنان:

السريع، شطره "مستفعلن مستفعلن فاعلن".

الوافر، شطره "مفاعلتن مفاعلتن فعولن".

أما البحور الصافية فإن أمرها يسير لأن الشعر الحر منها ينظم بتكرار التفعيلة الواحدة له بحسب ما يحتاج المعنى من مرات "على ألا يتجاوز العدد الحدود المقبولة للذوق العربي في الإيقاع". والمزالق في هذه البحور أقل منها في البحور الممزوجة، وذلك بسبب وحدة التفعيلة. وإنما تكمن مزالق أخطر في البحور ذات التفعيلتين كما سبق أن شرحنا

إن القصيدة الحرة من البحر الوافر ينبغي أن تجري على هذا النسق مثلًا:

مفاعلتن فعولن

مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن فعولن

مفاعلتن مفاعلتن فعولن

مفاعلتن فعولن

فيكون التنويع في عدد التفعيلة المكررة وحسب، أي في "مفاعلتين".

ويشترط أن ينتهي كل شطر في القصيدة بالتفعيلة "فعولن" لأنها كانت منفردة في شطر الوافر الأصلي فلا يصح أن يقول الشاعر مثلًا:

مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن

والواقع أن أكثر أخطاء الناشئين ترد في قصائدهم التي تنتهي بتفعيلة منفردة، فهم يزلقون إذ ذاك فيخرجون عنها. وهذا النوع من الغلط شائع في الشعر الحر شيوعًا ملحوظًا.

وأما البحور الأخرى التي لم نتعرض لها، كالطويل والمديد والبسيط والمنسرح، فهي لا تصلح للشعر الحر على الإطلاق؛ لأنها ذات تفعيلات منوعة ولا تكرار فيها. وإنما يصح الشعر الحر في البحور التي كان التكرار قياسيًّا في تفعيلاتها كلها أو بعضها.

وأما ما حاوله بعض الناشئين من أن يكتبوا شعرًا حرًّا من البحور الطويل فقد انتهى إلى الفشل. إن كل ما يمكن أن يصنع من هذا البحر أن ترتب تفعيلاته كما يلي مثلًا:

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

فعولن مفاعيلن

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

فعولن مفاعيلن

وهذا ليس شعرًا حرًّا، كما هو واضح، إنما هو نظام وزن يقوم على شطر ونصف لا يتعداهما، وقد استفاد الشاعر من كون إحدى تشكيلات الطويل تتألف من تكرار التفعيلتين "فعولن مفاعيلن". وسبب تعذر إقامة شعر حر من هذا الوزن أن كون الوحدة تتألف من تفعيلتين بدلًا من تفعيلة واحدة، يجعل طول الشطر محددًا لا يعدو أن يكون "فعولن مفاعيلن" واحدة أو تكرارها "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن". وحتى هذا يبدو لاهثًا متعبًا بحيث تعسر قراءته ويخلو من ليونة الموسيقى. ولقد ورد في بعض الموشحات الأندلسية ما يشبه هذا حين كتب شاعر في قصيدة ضمنها أعجاز نونية ابن زيدون "من البسيط":

غدا مناديا

محكما فينا

يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

ووزنه كما يلي:

مستفعلن فعلن

مستفعلن فعلن

مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن

وهو في نظرنا نظم صلب تنقصه الليونة. والواقع أن في بعض الموشحات الأندلسية من الفوضى والغلط ما لا يقل عما في شعر الناشئين اليوم. ونحسب أن الأسباب واحدة في الحالتين.

2- أوزان التشكيلات:


في حديثنا السابق عن أوزان البحور تناولنا الصورة الأساسية للبحر الشعري كما نص عليها علم العروض. وعلى أساس تلك الصورة قسمناالبحور إلى صافية وممزوجة. ونتناول الآن الصور الفرعية التي يتناولها العروضيون باعتبارها أنواعًا من الأعاريض والضروب وهي صور يعرفها كل من له اطلاع على علم العروض وقد أطلقت عليها اسم "التشكيلات". إن البحر الكامل مثلًا في صورته الأساسية، يجري هكذا "متفاعلن متفاعلن متفاعلن" ومنه قول المتنبي في بداية قصيدة له:

اليوم عهدكم فأين الموعد؟ 

هيهات، ليس ليوم عهدكم غد

إن التي سفكت دمي بجفونها 

لم تدر أن دمي الذي تتقلد

قالت وقد رأت اصفراري: ما به؟

وتنهدت فأجبتها: المتنهد

والكامل، باعتباره هذا، بحر صاف لأنه ذو تفعيلة واحدة لا تتغير هي "متفاعلن". غير أن الكامل -مثل سواه من البحور- لا يستقر على صورته الصافية هذه، وإنما تعتري تفعيلته الأخيرة "أو ضربه" تغيرات فتحول إلى "فعلن" أو "مفعولن". للمتنبي مثلًا قصيدة تجري هكذا:

"متفاعلن متفاعلن مفعولن"

سر حل حيث تحله النوار

 وأراد فيك مرادك المقدار

وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة

حيث اتجهت وديمة مدرار

وترد للحارث بن حلزة اليشكري قصيدة ذات تشكيلة أخرى هي "متفاعلن متفاعلن فعلن" وهذا نموذج منها:

لمن الديار عفون بالحبس

 آياتها كمهارق الفرس

لا شيء فيها غير أصورة 

سفع الخدود يلحن كالشمس

فحسبت فيها الركب أحدس في 

كل الأمور وكنت ذا حدس



وإنه لواضح أن التشكيلتين:

متفاعلن متفاعلن مفعولن

متفاعلن متفاعلن فعلن

لم تعودا تشكيلتين صافيتين، على الرغم من أنهما كليهما تنتميان إلى البحر الكامل ذي الوزن الصافي في أساسه. والصحيح أن هاتين التشكيلتين تدخلان تحت نطاق ما سميناه بالبحور الممزوجة وتخضعان لقانونها الذي شرحناه سابقًا. ومعنى ذلك أن التفعيلة المنفردة الطارئة على آخر التشكيلتين ينبغي أن تكرر في ختام كل شطر من أشطر القصيدة الحرة. وإنما التنويع في العدد مقصور على التفعيلة "متفاعلن" التي وردت أكثر من مرة في الشطر الأصلي. وهذا مثال:

متفاعلن فعلن

متفاعلن متفاعلن متفاعلن فعلن

متفاعلن متفاعلن فعلن

متفاعلن فعلن

متفاعلن متفاعلن فعلن

ولقد كان القانون العروضي الذي خضع له الشاعر العربي دائمًا أنه ليس يمكن أن تجتمع تشكيلتان في قصيدة واحدة، 

وإنما تقتصر كل قصيدة على تشكيلة واحدة يختارها الشاعر منذ مطلع القصيدة ويلازمها في كل بيت. وذلك ظاهر في قصيدة المتنبي والحارث اللتين اخترنا نماذج منهما وهو ظاهر في الشعر العربي كله، سواء منه ما نظم قبل العروض أو بعده.

 وإنما الحكم في ذلك إلى الأذن العربية التي تنفر بطبعها من أن ترد تشكيلتان في القصيدة الواحدة. والواقع أن الخليل بن أحمد إنما أطلق اسم الكامل على التشكيلات السابقة وغيرها جميعًا على سبيل تصنيف هذه الأشكال تحت صنف أساسي، لا على سبيل إقرار اجتماعها في قصيدة واحدة. والأمر كذلك في البحور الأخرى ذات التشكيلات المختلفة التي عزلها الشاعر العربي في شعره فلم يخلط بينها قط.شعراؤها المعاصرون 

والتشكيلات:هذه المبادئ الأولية التي حافظ عليها الشاعر العربي في العصور كلها قد اضطربت وكادت تَمَّحي في أيد الناشئين الذين تناولوا حركة الشعر الحر وأقبلوا على الاندفاع معها. ذلك أنهم خلطوا التشكيلات المتنافرة وأوردوها جميعًا في القصيدة الواحدة. فكان الشاعر يجمع في قصيدته المرقعة تشكيلات البحر كلها بلا مبالاة، فإذا قصيدة البحر الكامل تستحيل إلى خليط مما يلي جميعًا:

متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلاتن

متفاعلن فعلن

متفاعلن متفاعلن مفعولن

متفاعلن متفاعلن

متفاعلن متفاعلن فعلن

ولا يخفى على كل ذي سمع شعري مدى التنافر بين هذه التشكيلات، حتى ليضطر المرء إلى أن يطوي قصائد هؤلاء الشعراء ولا يقرؤها مهملًا ما قد يكون فيها من معانٍ مبتكرة وصور جميلة وأفكار موحية.

ولنقدم نموذجًا من هذا الخلط لجورج غانم من البحر الكامل:

لكنهم متيقنون بأنهم صرعى حميَّا

"متفاعلاتن":

وعزاؤهم أن الحياة تقوم للأبطال هيَّا

"متفاعلاتن":

منا الصدى مني

"فعلن":

من مقلتي وفمي

"فعلن":

فأحسه نارًا ووعدًا وارتقابًا للغد

"متفاعلن":

هذه خمسة أشطر متجاورة من القصيدة قد أوردت في "ضربها" أربعًا من تشكيلات البحر الكامل. والأذن العربية لا تقبل في القصيدة الواحدة إلا تشكيلة واحدة، وعلى ذلك جرت آلاف القصائد منذ أقدم العصور حتى الآن. والواقع أن الشعراء -حتى في عصر الانحطاط- لم يقعوا في مثل هذا، فمع أن شعرهم كان سمجًا سقيم المعاني ركيك اللغة إلا أن موسيقى الشعر العربي كانت ترن في كيانهم فلا يستطيعون أن يخرجوا عنها.

ومهما يكن فلا بد للشاعر أن يستوعب في ذهنه فكرة استقلال البحر عن التشكيلة، وأن يفهم أن لكل بحر من بحور الشعر تشكيلات مختلفة لا يمكن أن تتجاور في قصية واحدة. وإنما ينبغي أن تستقل كل قصيدة بتشكيلة ما، وأن تمضي على ذلك لا تحيد عنه إلى آخر شطر فيها.

علينا أن نتذكر كذلك أن الشعر الحر ليس خروجًا على قوانين الأذن العربية والعروض العربي، وإنما ينبغي أن يجري تمام الجريان على تلك القوانين خاضعًا لكل ما يرد من صور الزحاف والعلل والضروب والمجزوء والمشطور. وأن أية قصيدة حرة لا تقبل التقطيع الكامل على أساس العروض القديم -الذي لا عروض سواه لشعرنا العربي- لهي قصيدة ركيكة الموسيقى مختلة الوزن، ولسوف ترفضها الفطرة العربية السليمة ولو لم تعرف العروض

 ونحن نقول هذا لا لأننا نعادي التجديد، وإنما لأن تفعيلات الشعر ومثلها النسب في الموسيقى، شيء ثابت في كل لغة ثبوت الأرقام في الرياضيات، فمهما تجددت العصور والأفكار ونمت وصعدت فإن الأرقام ونسب الشعر والموسيقى تبقى ثابتة لا تتغير. وأما ما يتغير فهو الأشكال والأنماط التي تُبنى من تلك النسب، ذلك كمثل قوس قزح، يبقى إلى الأبد محتفظًا بالألوان كلها، لا يصنع الفنانون المجدون إلا خلط تلك الألوان والتجديد في رصفها ومزجها والتصوير بها

الشعر الحر شعر ذو شطر واحد:


أبرز الفوارق العروضية بين أسلوب الشطرين وأسلوب الشطر الواحد فارقان اثنان لا بد لنا أن نلتفت إليهما:

الأول- أن القافية، سواء أكانت موحدة أم لا ترد في نهاية كل شطر من الشعر ذي الشطر الواحد، بينما ترد في آخر الشطر الثاني من البيت في أسلوب الشطرين. ومعنى هذا أن الشطر الأول من البيت يعفى من القافية، في حين يتمسك كل شطر من الشر الحر بها لأنه شعر ذو شطر واحد.

الثاني- أن الشطرين في البيت لا يتساويان تساويًا عروضيًّا وإنما قد يباح في الشطر الأول ما لا يباح في الثاني، ومن ثم فإن قصيدة الشطرين تحتاج أحيانًا إلى تشكيلتين اثنتين تجريان على نسق ثابت بحيث ترد التشكيلة عينها في صدور الأبيات، والتشكيلة الأخرى في الأعجاز. وهذه الحرية، حرية إيراد تشكيلتين، غير مباحة في الشعر الحر لأنه ذو شطر واحد. وسبب هذا المنع أن عدم انتظام وجود شطرين في هذا الشعر يضعف من إحساس السمع بموسيقى تشكيلتين اثنتين تتعاقبان ويعطي كل منهما وقعًا معينًا يختلف عن وقع الأخرى، فإذا أعطينا القصيدة تشكيلتين

بدلًا من واحدة، وكل شطر منها فوق ذلك طويلًا وآخر أقصر وثالث أطول اجتمع على القصيدة تعقيدان: تعقيد وجود تشكيلتين تستوعبان اهتمام الذهن، وتعقيد الأطوال المختلفة. ويؤدي ذلك إلى أن يفقد السمع إحساسه بالموسيقى ويتيه بين تنوع الطول وتنوع التشكيلة. وأما نظام الشطر الواحد ذي التشكيلة الواحدة الثابتة، مثل الأرجوزة، فإنه يساعد السمع على تذوق الموسيقى، خاصة وأن القافية الموحدة، برنينها وعلو نبرتها، لم تعد موجودة في الشعر الحر إلا في النادر النادر.

ولا بد لنا أن نلاحظ أن اختلاف أحد الشطرين عن الآخر في أسلوب الشطرين هو الذي جعل وحدة الوزن البيت لا الشطر، وهو الذي جعل العروضيين يقسمون البيت أقسامًا يطلقون عليها أسماء كما يلي:

الصدر اسم الشطر الأول.

العجز اسم الشطر الثاني.

العروض اسم التفعيلة الأخيرة من الصدر.

الضرب اسم التفعيلة الأخيرة من العجز.

الحشو كل ما عدا العروض والضرب في البيت.

وكانت هذه الأسماء ضرورية، يستعين بها العروضيون على تصنيف الأعاريض والضروب التي وردت في كل بحر من بحور الشعر العربي. فقالوا مثلًا العروض الصحيحة والضرب المقطوع، والعروض المجزوءة والضرب المذيل ونحو ذلك، وذلك هو ما سميته "التشكيلة" في الفصول السابقة. وكان الشاعر العربي يهتدي بسليقته الشعرية إلى العروض والضرب الملائمين في كل قصيدة يقولها، وكان يطيع ذلك النموذج عبر القصيدة كلها فلا ترد فيها أكثر من تشكيلتين اثنتين إحداهما للصدور والأخرى للأعجاز "ما عدا البيت المصرع فإن صدره وعجزه يستويان".

وأما حين كان الشاعر ينظم شعرًا ذا شطر واحد كالأرجوزة، فإنه

كان يجعل القصيدة ذات تشكيلة واحدة تتكرر في كل شطر فلا يخرج عليها قط. ولم ترد التشكيلتان مجتمعتين قط إلا في القصيدة ذات الشطرين. وهذا منطقي بالمعنى العروضي، فضلًا عن أن الأذن العربية ترتاح إليه.

ذلك هو السبب الذي يجعل الشعر الحر لا يقبل أن ترد فيه تشكيلتان. فإنما التشكيلتان مزية يمنحها الشاعر إذا هو نظم قصيدة ذات شطرين اثنين يحافظ فيهما على التناسق، وعلى تساوي التفعيلات في كل شطر، وعلى تقابل كل صدر مع الصدور السابقة واللاحقة في نظام وتسلسل مضبوطين، وأما الحرية التي يعطيها الشعر الحر للشاعر فإن في مقابلها تقييدًا في التشكيلة فيقتصر الشاعر في قصيدته على تشكيلة واحدة لا يتخطاها. وإنما يفرض هذا التقييد لأسباب جمالية وذوقية؛ لأن الموسيقى التي هي قوام كل شعر، تضعف بوجود التفاوت في طول الأشطر، بحيث ينبغي للشاعر أن يسندها ويقويها بالمحافظة على وحدة التشكيلة، وبذلك يستطيع الشطر الحر أن يرن ويبعث في وعي السامع لحنًا ويخلق له جوًّا شعريًّا جميلًا.

على أن الشعراء الجدد لم يتقيدوا بهذا بل خرجوا عليه. ولم يكن ذلك منهم عن سبق إصرار -فيما أعتقد- وإنما كان أساسه قلة المران وضآلة المعرفة بالشعر العربي وعروضه. ذلك أن طائفة من هؤلاء الشعراء لا تنقصهم الموهبة ولا الأصالة وقد عرفنا لهم شعرًا مقبولًا بأسلوب الشطرين. وكان الخطأ البارز، في شعرهم الحر أنهم خلطوا في القصيدة الواحدة بين تشكيلات البحر كلها على تنافرها. على أن بعضهم كان يقع في غلط أبسط من هذا فيورد في القصيدة الحرة التشكيلتين اللتين تردان عروضيًّا في أسلوب الشطرين. وهذا نموذج من شعر خليل حاوي من بحر الرجز.

مستفعلن مستفعلن مستفعلن

داري التي أبحرتِ غربتِ معي

"مستفعلن":

وكنتِ خير دار

"فعول"

في دوخة البحار

"فعول":

في غربتي وغرفتي

"مستفعلن":

ينمو على عتبتها الغبار1

"فعولْ":

ويتجلى أسلوب الشطرين في هذا الشعر أوضح لو أضفنا إليه بعض التفعيلات الناقصة فإنه سرعان ما يبدو هكذا:

داري التي أبحرتِ غربتِ معي

وكنت "لي في البعد" خير دار

في غربتي وغرفتي "ساكنة"

ينمو على عتبتها الغبار

وهذا شعر ذو شطرين جار على القانون. وإنما الخطأ فيه أن ناظمه أراد أن يجمع فيه بين الراحتين الاثنتين: تنوع أطوال الأشطر، ووجود أكثر من تشكيلة، وذلك لا يكون إلا على حساب موسيقى القصيدة فإنها تفقد الجمال والرنين.

والحق أن الوقوع في هذا الخطإ ليس نادرًا في الشعر الحر الذي ينظمونه اليوم. وهو كما بيَّنَّا خروج صريح على مبادئ الشعر الحر ينبغي للشاعر أن يتحاشى الوقوع فيه



المصادر


قضايا الشعر المعاصر

نازك الملائكة









حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-