الأوزان الجديدة في الشعر الحر

الأوزان الجديدة في الشعر الحر




العروض العام للشعر الحر.


 أن كثيرًا من الشعراء الذين تلقوا الدعوة إلى الشعر الحر في حماسة لا يعرفون حتى الآن الغرض منها.

 إن بعضهم يخلط بينها وبين الدعوة إلى تجديد الموضوع في القصيدة العربية، وبعضهم يظن أن غايتها الوحيدة هي تثبيت دعائم ما يسمونه بالواقعية في الشعر.

 ولئن كنا لا ننكر أن هذه الظنون وأمثالها لا تتعارض مع طبيعة الشعر الحر، غير أننا نلح مع ذلك على التذكير بأن الشعر الحر ظاهرة عروضية قبل كل شيء. ذلك أنه يتناول الشكل الموسيقي للقصيدة ويتعلق بعدد التفعيلات في الشطر، ويعني بترتيب الأشطر والقوافي، وأسلوب استعمال التدوير والزحاف والوتد وغير ذلك مما هو قضايا عروضية بحته،

 إننا مع الشعر الحر بإزاء دعوة إلى دراسة الإمكانيات التي تقدمها بحورالشعر العربي الستة عشر للشاعر المعاصر الذي يهمه التعبير عن حياته في حرية وانطلاق. وما لم يدرك الشاعر العربي خطورة موقفه في هذا المفرق الموسيقي من تاريخ الشعر العربي، ومدى ما يمكن أن يسقط فيه من أغلاط ذوقية وعروضية وهو يندفع، فإن حركة الشعر الحر تسقط يومًا بعد يوم في هاوية مبتذلة ما كنا نحب أن تصير إليها.

وإنه ليخيل إلى من يراقب ما تنشره الصحف الأدبية من هذا الشعر أن شعراءنا يتناولون الأوزان الحرة ويلعبون بها كما يلعب طفل غير مسئول بحزمة أوراق مالية عالية القيمة. إنه فرحٌ بملمسها الناعم، بخشخشة ورقها، بألوانها ورسومها. إنه يكدسها ويدعكها ويبعثرها ويمزقها ثم يقف متفرجًا منتشيًا بما صنع، غير منتبه إلى ما بين يديه من ثروة. 

ولن ينكر أحد أن في بحور الشعر العربي إمكانيات موسيقية غنية في وسعنا أن نستخرجها إذا نحن كففنا عن اللعب بالتفعيلات وصفها وتلوينها وبعثرتها على أسطر متتالية فارغة من المعنى. والحق أنه إذا كانت اثنتا عشرة سنة من الشعر الحر لم تصح شعراءنا من السكرة الأولى التي جاءت بها فرحة الحرية فإن الأمر لا يبشر بالخير الكثير.

هذا قد كان موقف الشعراء أنفسهم من الشعر الحر، فماذا كان موقف الجمهور؟ لعلنا كلنا نعلم أن أغلب القراء -وبينهم ناظمون متمكنون- ما زالوا يجهلون الأساس العروضي الخليلي للشعر الحر

. إن طائفة منهم تحسبه نثرًا لا وزن له مرصوصًا على أسطر متتالية بدافع غيّة صبيانية في نفس كاتبه. وأنا أميل إلى أن أعتقد بأن الجمهور غير ملوم في فكرته هذه. فإنما روج لها بعض الشعراء الكبار من الجيل الماضي، وقد راحوا يصرحون، في لذة لا تخلو من التشفي، أن الشعر الحر ليس موزونًا وإنما هو نثر. وبذلك ساهموا في هدم الناحية العروضية من الشعر الحر. 

ولعلنا أن ندافع حتى عن هؤلاء الشعراء الكبار. ذلك أن أكثرهم لم يكونوا نقادًا للشعر يومًا بحيث يستطيعون الكتابة عن ظاهرةعروضية خالصة مثل الشعر الحر. وإنما يقع أكثر اللوم على النقاد الذين أهملوا الشعر الحر كل الإهمال فلم يحاول أي منهم أن يكتب بحثًا أو كتابًا يتناول فيه حركة الشعر الحر من جانبها العروضي.

 وقد كانت الأبحاث القليلة التي نشرت لي منذ سنة 1952 في مجلتي الأديب والآداب وغيرهما هي -فيما أعلم ولعلي لم أتابع المنشور كله- الأبحاث الوحيدة التي عُنيت بعروض الشعر الحر وألحت في دعوة النقاد والشعراء إلى الالتفات إليه.

وأما الناحية التي عني بها النقد العربي في دراساته حول الشعر الحر فقد كانت غالبًا ناحية موضوعاته ومعانيه والصور فيه. فكان الناقد يكتب فصولًا طويلة عن عشرات من القصائد الحرة دون أن يشير ولو بسطر إلى الناحية العروضية منها، مع أن تلك القصائد التي كان الناقد يتحدث عنها كانت مشحونة بالأخطاء الوزنية. 

وأن المراقب الحريص على مستوى نقد الشعر في وطننا العربي ليتساءل في اهتمام عن سبب هذا: أترى هؤلاء النقاد لا يتحسسون الوزن ولا يستشعرون الخطأ العروض؟ أهم ضعيفو الشعور بموسيقى الشعر بحيث لا تصك أسماعهم كل تلك النشازات والأغلاط؟ أم أن لمسلكهم تعليلًا آخر أعمق جذورًا؟

من الحق أن نقول أن طائفة من هؤلاء النقاد الذين يكتبون عن الشعر الحر دون أن يتعرضوا للأخطاء العروضية فيه يملكون حس النقد وملكة التذوق، ويستجيبون للشعر على أجمل ما نحب لهم. ومن الثابت عندي أن بعضهم قد مارسوا نظم الشعر السالم من الأخطاء بأسلوب الشطرين. 

وإنما يكمن إهمالهم للناحية العروضية من الشعر الحر في ظاهرة أعماق بدأت تشيع في الجو الأدبي بعد الحرب العالمية الثانية، وأعني بها ظاهرة الرومانسية في النقد. ومنبع هذه الظاهرة في أدبنا العربي، شيوع تلك النظريات التعبيرية expressive theories التي نادت بأن الشاعر ملهم، وبأن الأوزان تنبعث مغنية في أعماقه دون أن يحتاج إلى دراسة العروض وأوزان الشعر. لقد سرت هذه النظريات إلى مفاهيم النقد نفسها فقالوا بأن الناقد نفسه ملهم بحيث تنبع الأحكام من كيانه دون أن يميز القواعد بوضوح، وظنوا أن الارتكاز إلى القوانين الأدبية الدارجة يقلل من قيمة الناقد باعتباره موهوبًا يرتكز إلى الفطرة المبدعة ولا يحتاج إلى الدراسة العلمية.

 يضاف إلى ذلك أن الناقد العربي -وهو يدرس شعر شاعر يحتقر العروض لأنه ملهم- أصبح يكره أن يرتكز إلى قواعد العروض حذرًا من أن يسيئ إلى ذلك الشاعر الملهم بتنبيهه إلى القواعد التي تتعارض مع إلهامه وموهبته.

ومهما يكن من أمر الأسباب فإن نقادنا المحدثين أصبحوا ينطوون على الاستحياء من علم العروض ويؤثرون إقصاءه عن قيم النقد وأصوله، وكأن شعرنا أجمل وأرق وأسمى من أن يقاس بالمقاييس الموضوعية التي استقرأها أسلافنا عبر القرون من آلاف القصائد العربية القديمة. وقد حان لنا أن نحارب هذه النزعة الخجول في النقد، خاصة في هذه السنين التي تعرض خلالها الشعر إلى هزة غير هينة بسبب قيام حركة الشعر الحر. وما دام الشعر الحر -في أساسه- دعوة إلى تطوير الشكل، ما دام يتناول الأوزان والتشكيلات والقوافي، فليس في إمكاننا أن ننقده إلا على أساس موضوعي من علم العروض.

على أن دعوتنا إلى العودة إلى علم العروض، ونفض الغبار عنه من أعماق المكتبة العربية، لا ترمي إلى تقييم الشعر الحر، وتقويمه وحسب، وإنما نقصد بها أيضًا إلى أن نجد للشعر الحر أصولًا أرسخ تشده إلى الشعر العربي القديم وتضعه في مكانه من سلم التطور بحيث يقتنع القارئ الموسوس بأن وزن الشعر لم يحطم على أيدينا، ولأننا لا نقل حرصًا عليه من أي شاعر قديم مخلص. 

وسرعان ما سنكشف أننا نحتاج إلى أن نطورالدراسات العروضية التي توقف نموها منذ زمن ولم تلحق بسائر فروع العلوم العربية. فقد تطور الشكل في الشعر العربي بحيث لم تعد كتب العروض القديمة تكفي تمام الكفاية في نقد الأشكال الجديدة التي نمت اليوم، وبات ضروريًّا أن يطور العروض نفسه ليستطيع مواجهة الشعر. وإنه لطبيعي تمامًا أن تظهر الأنماط أولًا، ثم تعقبها القواعد التي بها يقاس الفاسد منها، وهذا لأن النمط خلق تندفع به طبيعة فنان تلهمه روح العصر، وأما القواعد فهي مجرد استقراء واعٍ

 الشعر الحر أسلوب.

أول ما ينبغي لنا أن نفعل ونحن نضع عروضًا للشعر الحر أن نحدد مكانه العام في كتاب العروض العربي. وسوف نقرر بدءًا أن الشعر الحر ليس وزنًا معينًا أو أوزانًا -كما يتوهم أناس- وإنما هو أسلوب في ترتيب تفاعيل الخليل تدخل فيه بحور عديدة من البحور العربية الستة عشر المعروفة. ولذلك فإن أول مدخل ينفذ منه الشعر الحر إلى كتب العروض أن يُحصى مع الأشكال الشعرية العامة التي ندرسها. وأنا أقترح أن ينص كتاب العروض على أن العرب -ومنهم نحن المعاصرين- قد كتبوا الشعر على أساليب تنحصر فيما يلي:

أ- أسلوب البيت "الشطرين":


ومنه أكثر الشعر العربي، وهو شعر ذو شطرين متساويين في عدد تفعيلاتهما قوام الشطر الواحد فيه إما تفعيلتان كما في الهزج والمضارع، أو ثلاث تفعيلات كما في الكامل والسريع، أو أربع تفعيلات كما في المتقارب والبسيط ولا يشترط فيه أن يكون العروض والضرب متساويين وإنما يباح في أحدهما ما لا يباح في الآخر، كما في قول عمر أبو ريشة من "الرمل"

كنتُ كالملاح في لجته 

فاعلاتن فاعلاتن فاعلن 


كسرت مجدافه الريح فتاها


فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

ويحافظ الشاعر على نمط الأشطر عبر القصيدة كلها فتتبع صدور الأبيات قانونها الذي هو حذف السبب الخفيف من "فاعلاتن" وبذلك تصبح "فاعلن"، كما تتبع الإعجاز قانونها في تناسق لا يخرج عليه الشاعر إلا في البيت المصرع "الذي يجري الشاعر على صدره قانون العجز ويختمه بضربه".

ومن الغلط بيت الشاعر علي محمود طه من بحر "الرمل":

يا لها! كيف استقرت ثم فرت … لحظة مرت ولكن ما وعاها

فقد خرج شطره الأول على عروض "الرمل" المباح في غير ما "تصريع" مع أن قصيدته هذه قد حافظت على القانون في أبياتها جميعًا.

وإنما يباح عدم تساوي العروض والضرب لأن هذا شعر ذو شطرين، وذلك هو النمط العربي في كل شعر يجري على هذا الأسلوب.

ب- أسلوب الشطر الواحد:


وهو شعر يتألف كل شطر فيه من تفعيلات ثابتة العدد عبر القصيدة

كلها، ويكون له ضرب واحد لا يتغير ومنه ما يسمى في الأدب العربي بالأرجوزة. وكان العرب يجعلونها موحدة القافية كما في أشطر امرئ القيس:

تطاول الليل علينا دمون

دمون إنا معشر يمانون

وإننا لأهلنا محبون

وقد نوعوا القوافي في العصور التالية حين نظموا الأراجيز العلمية مثل الألفيات في النحو وغيرها.

وقد ينظم الشاعر شعرًا ذا شطر واحد ثابت الطول من أي بحر يختاره كما فعل علي محمود طه في قصيدته "ميلاد شاعر" من "الخفيف"

أدخلوا الآن أيها المحسنونا

جنة كنتم بها توعدونا

اجعلوا من البدائع زونا

واملئوها من الجمال فنونا

املئوها فنًّا وليس فتونا

وانشروا الصفو فوقها والسكونا

ج- أسلوب الموشح:


وهو شعر يجمع بين أسلوب الشطر الواحد وأسلوب الشطرين. وتكون أطوال أشطر الموشح متساوية كقول الشاعر من البحر السريع:

عبث الوجد بقلبي فاشتكى 

ألم الوجد فلبت أدمعي

أيها الناس فؤادي شغف

وهو من بغي الهوى لا يُنْصف

كم أداريه ودمعي يكف

أيها الشادان من علمكا 

بسهام اللحظ قتل السَّبُع

وقد تكون أطوال الأشطر غير متساوية كما في الموشح التالي مما شاع في العصر الأندلسي المتأخر، وهو من بحر الرجز:

ليلي طويل

ولا معين

يا قلب بعض الناس

أما تلين؟

ومنه موشح ابن سناء الملك التالي، من السريع:

وأمل لي

حتى تراني عنك في معزل

قلل

فالراح كالعشق أن يزد يقتل

لا أليم

في شرب صهباء وفي عشق ريم

فالنعيم

عيش جديد ومدام قديم

د- أسلوب الشعر الحر:


وهو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت وإنما يصح أن يتغير عدد

التفعيلات من شطر إلى شطر. ويكون هذا التغير وفق قانون عروضي يتحكم فيه سندرسه بالتفصيل فيما بعد.

هـ- أسلوب البند:


ونحن نعزله فرعًا قائمًا بذاته، مع أنه في عدم استواء أشطره، ينبغي أن يصنف مع الشعر الحر. وإنما نعزله لأنه، في الواقع، شعر يجمع وزنين اثنين من دائرة واحدة هما الهزج والرمل وليس صحيحًا ما يذهب إليه الدارسون من أنه يقتصر على وزن واحد هو "الهزج".

وبسبب كون البند ذا وزنين اثنين، خلافًا للأساليب الأخرى، فإنه من المباح فيه أن يكون له أكثر من ضرب واحد: ضربان يتعاقبان وفق خطة ذكية منسقة أجمل تنسيق كما سنبين في الفصل الخاص بالبند."الشعر الحر" "البند".تخطيط يبين أساليب الوزن في الشعر العربي ومكان الشعر الحر منها



المصادر: 


قضايا الشعر المعاصر 

نازك الملائكة 




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-