المشاكل الفرعية في الشعر الحر

 المشاكل الفرعية في الشعر الحر




المشاكل الفرعية في الشعر الحر

حين وضع الخليل بن أحمد، المتوفى سنة 75هـ قواعد العروض العربي القديم، استقرأها من الشعر العربي المسموع، فحصر الأوزان المعروفة جميعًا ووضع لها مقاييس عامة شاملة سماها البحور، ثم تناول التغييرات التي تعتري تلك البحور، والتفريعات عنها، وما يعتريها من زحاف وعلل واستخلص لها كلها قوانين ومقاييس لبى بها حاجة الشعر والنقد في زمانه.

 وكانت مقاييسه تلك مناسبة لزمانه كل المناسبة لأنها كانت مستقرأة من شعر ذلك الزمن فحصرته كله ولم تترك منه شيئًا غير مضبوط بقانون، وكان غرضه من ذلك أن يستطيع الناقد تقويم خطإ الناظم حين يخطئ على أساس علمي ثابت لا يعتريه النقصوفي زماننا نحن نشأت حركة الشعر الحر وجاءت بأسلوب جديد في رصف التفعيلات الخليلية خرج على الأسلوب الشائع. 

وأدت هذه الحركة إلى أن تنشأ مشكلات عروضية لم تكن تخطر على بال الخليل؛ لأن العرب لم يقعوا في مثلها، في قصائدهم. ولذلك بات علينا أن نستخلص، في هذا العصر، القانون العروضي الذي يضبط هذه المشكلات ويحمي الشاعر والناظم وناقد الشعر من الوقوع فيها. ومع أن هذه المشكلات لا تخرجنا من نطاق العروض الخليلي الرائع، ولا تحوجنا إلى استعمال كثير من الاصطلاحات الجديدة، غير أننا نحتاج -مع ذلك- إلى أن نخص الشعر الحر بفصل خاص نضيفه إلى كتب العروض العربي، وندرج فيه -كما فعلنا في هذا الفصل وسوابقه- القوانين الخاصة بالشعر الحر، والحدود العروضية التي لا يصح له أن يتخطاها.

وكما كان اعتماد الخليل، في ضبطه للبحور والسقطات في زمانه على حسه الشعري، وذوقه وما يحفظ من الشعر العربي، فقد كان اعتمادي أنا أيضًا على حس الشعري وذوقي وما أحفظ من الشعر العربي. والفضل فيما قد أكون وفقت إليه من قاعدة أو قانون يرجع إلى الخليل العظيم الذي رصف الطريق لكل شعر عربي خير رصف وأدقه، وابتدع العروض ابتداعًا على غير نمط سابق. ولست أراني فعلت في هذا الفصل عن عروض الشعر الحر، أكثر من استقراء قوانين جديدة على أساس الخطوط الكبرى التي رصفها ذلك العالم الفذ.

وبعد فإن لي ملاحظات حول طائفة من التفاصيل المتعلقة بالشعر الحر، وهي ملاحظات نضجت في نفسي عبر سنين كثيرة كنت خلالها أتابع ما تنشره المجلات الأدبية والصحف اليومية من هذا الشعر. وقد انتهيت بعد طول التأمل إلى أن علينا في أي عروض نكتبه للشعر الحر، أن ننتبه إلى أربع قضايا فيه هي

  1. الوتد المجموع.
  2.  الزحاف.
  3.  التدوير.
  4. التشكيلات الخماسية والتساعية.

ولا بد لنا من أن نلحق بهذه القضايا الأربع العامة قضيتين خاصتين هما مسألة ورود "مستفعلان" في ضرب الرجز، و"فاعلُ" في حشو الخبب.

علينا أن نشير كذلك إلى أن الخليل هو الذي وضع الاصطلاحات "الوتد"، "الزحاف"، "التدوير" ونحن لا نحتاج إلى تغييرها في عروض الشعر الحر. وإنما ينحصر ما نحتاج إليه، في تعيين الأحكام الخاصة للوتد والزحاف والتدوير في الشعر الحر نفسه؛ لأن أحكامها هنا تختلف بالضرورة عن أحكامها في شعر الشطرين وغيره، وذلك بسبب الفروق التي شرحناها بين أسلوب الشطرين وأسلوب الشطر الواحد المتغير الطول

-1-‌‌ الوتد المجموع: في الشعر الحر


يعرف العروضيون "الوتد المجموع" بأنه مجموع ثلاثة أحرف، اثنان منهما متحركان والثالث ساكن كقولنا "لقد، هوى، صحا، نعم".

ومن هذا نستطيع أن نستخلص أن هذا الوتد يختم التفعيلات "فاعلن، متفاعلن، مستفعلن" ومعنى هذا أنه يرد في أربعة من بحور الشعر الحر هي:

1- المتدارك: فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن.

2- الرجز، مستفعلن مستفعلن مستفعلن.

3- الكامل، متفاعلن متفاعلن متفاعلن.

4- السريع، مستفعلن مستفعلن فاعلن.

وقد اقتصرت كتب العروض العربي، قديمها وحديثها، على تقديم الوتد تقديمًا عابرًا في بدايات أبحاث العروض، ثم لا تعود إلى ذكره قط. ونحن اليوم في فترة من تاريخ الشعر العربي تحتم علينا أن نعنى بهذا الوتد، خاصة في تلك التفعيلات التي تنتهي به مما ذكرنا.

والذي نلاحظه -وهي ملاحظة شخصية- أن الوتد في الشعر العربي يتصف بشيء من الصلادة والقسوة، ويجنح من ثم، إلى أن يتحكم في الكلمة التي يرد بها، ويرفض أن يسمح للشاعر بتخطيه. ومعنى هذا، إذا أردنا التبسيط، أن الوتد يبلغ من القوة بحيث يستطيع أن يشق الكلمة التي يرد في أولها إلى شقين. مثال ذلك أن نقول مثلًا:

شيخ المعرة شاعر 

مستفعلن متفاعلن

إن الوتد الأول هنا هو الحروف الثلاثة "معر" في كلمة "المعرة" وقد جاء من الكلمة في وسطها، وبذلك شقها إلى شقين أحدهما في آخر التفعيلة "مستفعلن" والآخر في أول التفعيلة "متفاعلن".

وتفسير ما نذهب إليه أن التفعيلة، بمعناها الشعري، وقفة موسيقية ينقطع عندها النغم، وهذه الخاصة أبرز وأشد في التفعيلات الوتدية التي أشرنا إليها، لما ذكرناه من قسوة الوتد وصلادته، فإذا توقف الصوت عند آخر الوتد انقسمت الكلمة إلى قسمين تتخللهما وقفة قصيرة وذلك مستكره ينفر منه السمع الشاعري نفورًا ظاهرًا.

إن قسوة الوتد هذه تجعل من الكياسة الشعرية أن يحاول الشاعر إيراده في آخر الكلمة لكي يختمها به ويقويها، بدلًا من أن يورده في أولها فيقطع أوصالها ويضيع تماسكها. هذا هو القانون العام، وقد نحتاج إلى بعض الاستثناءات فيه بالنسبة للمواقع التي يرد فيها كما سنذكر.

وقد يتساءل القارئ: ماذا صنع آلاف الشعراء العرب من أسلافنا لتحاشي مشكلات هذا الوتد المشاكس إذن عبر القرون؟ ولماذا لم يقعوا في شركه إذا كان يستدعي هذا الالتفات الخاص من الشاعر؟ والجواب أنهم كانوا يتحاشونه بالسليقة؛ لأن طبيعة الكلمة العربية وطبيعة موسيقى الأوزان كانت ترفض للشاعر أن يقع في مزالق الوتد، فيعرف كيف يتخلص منه، وتلهمه فطرته الموسيقية أن يلجأ إلى واحدة من الطرق التالية للتخلص من أشواك الوتد:

1- أن يورد الشاعر الوتد في آخر الكلمة لا في أولها كأن يقول "متجافيًا" أو "زهر الربى" أو "ذاهبًا".

2- أن يورد الوتد في النصف الأول من الكلمة على أن يكون آخره حرف مد. مثال ذلك قول ابن مالك:

وأستعين الله في ألفيه

فالوتد هو الحروف "تعي" في كلمة "وأستعين" وآخره كما نرى ياء. وقد خفف ذلك من قسوته وجعل شوكته تكسر في حرف المد.

3- ومما يخفف وقوع الوتد في الجزء الأول من الكلمة أن يكون آخر الوتد أل التعريف مثل قول مصطفى جمال الدين من قصيدة رجزية1أهلا بعينيك أبا فلاح … يا حاشد القلوب بالأفراح

فإن الوتدين في الشطر الثاني مختومان بأل التعريف "شدأل" "ب بأل". ويتكرر هذا في أبياته التالية أيضًا:

وحاصد اليأس وزارع المنى 

وساكب البرء على الجراح

وجاعل الليل لفرط بهجة 

أجمل من توهج الصباح

ويبدو لي أن سبب ليونة الوتد المختوم بأل التعريف أن أل هذه ليست جزءًا من الكلمة، وإنما هي أداة تضاف إلى الاسم، فالوتد المنتهي بها لا يمزق الكلمة.

ولكن الذي يلوح لي، أن علينا أن نستثني من هذه القاعدة، الوتد الذي ينتهي بأل التعريف الواقعة خاتمة لعروض البيت، فإنها هنا لا تكسر شوكة الوتد وإنما يبقى مع وجودها حادًّا ويحطم جمالية البيت، ومن هذا بيت مصطفى جمال الدين نفسه من قصيدة من البحر الكامل:

بغداد بالسحر المندى بالشذى

 فواح من حلل النسائم يقطر

ولا يقولن قائل إن هذا مقبول بدليل وقوعه في شعر شعرائنا القدماء، ذلك أنه كان يرد لديهم على ندرة. أما أنا فقد كنت طوال حياتي الشعرية أنفر منه ووقعت فيه مضطرة في قصيدتي "إلى عيني الحزينتين" المنظومة سنة 1945 في أوائل حياتي الشعرية ولم يكن جناحي قد قوي على الطيران فأوقعت التدوير في بحر وتدي عندما قلت

ورأيتما خلل الدموع مفاتن الـ

 ماضي وطاف الشوق في أفقيكما

وذلك لأن وقوع أل التعريف في ختام عروض البيت يشق الكلمة التي وقع فيها التدوير إلى شقين ولا يلتئم الجرح.

ولابد لي أن أنبه إلى أن هذا جائز عندما يقع في عروض المجزوء مثل مجزوء الكامل، خلافًا للوافي. وهي قاعدة غريبة أشرت إليها في موضع آخر من هذا الفصل ووقفت عاجزة عن تفسيرها، فما الذي يلطف ضيقنا ويلينه ونحن نقرأ مجزوء الكامل الذي تنتهي عروضه بأل التعريف، في حين نستقبح ذلك في وافي الكامل؟ فلينظر القارئ إلى انسياب أبيات علي الجارم المجزوءة:

يَخطِرْنَ حَتَّى تَعْجَبَ الْأَغْصَانُ مِنْ لِيِن الْقُدُودِ يَعْبَثْنَ بِالأًيَّامِ وَالْأَيَّامُ أَعْبَثُ مِنْ وَلِيدِ

هَذَا أَوَانُ الْعَدْوِ لَا الْإِبْطَاءِ وَالْمَشْيِ الْوَئِيد

إن الأشطر هنا متموجة، مناسبة، مترقرقة وكأنها موجة عذبة تعلو وتهبط في وداعة ويسر. ويكاد الشطران يكونان شطرًا واحدًا متناسقًا فلا وقفة بينهما.

4- ومع ذلك فإن إيقاف الوتد على حرف صلد في منتصف كلمة ليس ممنوعًا. وإنما يرد في الشعر بشروط. وذلك بأن يكون وقوعه كذلك نادرًا بحيث يرد إلى جواره، وتد يختم كلمة، ووتد آخر يقف على حرف مد، فإن وجود هذه الأوتاد التي كسرت حدتها يجعل الأذن تتقبل ورود وتد واحد عنيف في البيت، لا بل إن وروده قد يضيف تنويعًا إلى التفعيلات لقلته وندرتهالوتد في شعر المعاصرين:

في الحق أن شعراءنا الذين نظموا الشعر الحر يقابلون الوتد بقلة اكتراث ويتركونه، في أحيان كثيرة يهدم ألحانهم ويضعف موسيقى شعرهم دون أن يحسوا، ولا نظن ذلك يقع لهم لأن العلم بالعروض ينقصهم، فالعروضيون كما قلنا لا يتعرضون إلى هذه القضية قط، وإنما لأن معرفة شعرائنا بالشعر العربي السليم أقل مما ينبغي لهم. وقد يكون بعضهم من مدمني قراءة الشعر المعاصر وهو غالبًا غير سالم من الأخطاء العروضية، وليس مثلًا يحتذى في الذوق الموسيقي. وإلا فلا تعليل لدينا لما نراه في القصائد الحديثة من رداءة في الصياغة وركاكة في الأنغام. وأغلب الظن أن القارئ يتلو القصيدة ويحسها ضعيفة الوزن ناشزة النغم دون أن يدري سبب ذلك فيها. وهو غالبًا يخرج مغتاظًا مهيأً لأن يهاجم الشعر الحر في أول فرصة تسنح له.

هذا مثلًا بيت لفدوى طوقان من قصيدة ضعيف الوزن. قالت من الرجز:

هنا استردت ذاتي التي تحطمت بأيد الآخرين.

إن الأوتاد في هذا الشطر هي:

ترد في كلمة "استردت"

تي الـ في كلمة "ذاتي التي"

تحط في كلمة "تحطمت"

بأيـ في كلمة بأيدي


ومنه نرى أن الشاعرة قد وقفت أربع مرات على حرف صلد غير ممدود بينها الياء الساكنة غير الممدودة، وحكمها في هذا الموضع حكم الحرف الصلد. وهذا كما نرى من قراءة البيت، قد ألقى على الكلمات عبثًا ثقيلًا وكسرها تكسيرًا. والبيت، بعد ذلك، خالٍ من ليونة الموسيقى والتدفق الشعري الرقيق الذي يرد في بحر الرجز عادة. وذلك لأن الوتد هنا أقوى من الكلمة، بحيث قطع أوصالها. ولو كانت الشاعرة اختارت مواقف ساكنة على حروف ممدودة ينتهي عندها الوتد كما سبق أن شرحنا، أو لو أنها على الأقل قد فعلت ذلك في تفعيلتين من أربع لساعد ذلك الشطر. ولكنها لم تفعل ذلك وإنما وقعت في عكسه فجمعت بين الوقوف على حرف صلد، والوقوف في وسط الكلمة. فكانت الكلمة تبدأ في وسط التفعيلة وتنتهي في وسط التفعيلة التالية. وكذلك الأمر في التفعيلات فهي تبدأ في منتصف كلمة وتنتهي في منتصف كلمة تالية، وكل ذلك ظاهر في تقطيع الشطر الذي أوردناه سابقًا. وهو أمر شائع في الشعر الحر الذي نظموه في السنوات الأخيرة، فليست فدوى هي وحدها التي وقعت فيه وإنما اخترنا الشطر من شعرها لأنها تحسن النظم ومثل هذا في شعرها نادر.

ونحب أن نشير إلى أن الوتد في تفعيلة الرجز "مستفعلن" أقسى منه في تفعيلة الكامل "متفاعلن" وذلك لأن ورود السبب الثقيل

"مت" في أول تفعيلة الكامل يخفف من قسوة الوتد في ختام التفعيلة بسبب موازنته له، وكأن ثقل السبب يقابل قسوة الوتد. وأما في "مستفعلن" حيث السبب الخفيف "مس" فإن الوتد في آخرها يصبح أشد قسوة لوداعة السببين الخفيفين السابقين له. ولذلك نجد الرجز أسرع انزلاقًا من الكامل إلى النثرية وضعف الموسيقى، على الرغم مما نراه من سهولة النظم على الرجز بحيث سماه أسلافنا "حمار الشعراء". ومصداق ما نقول إن أخطاء الشعراء في الشعر الحر المكتوب على وزن الرجز أكثر بكثير من أخطائهم في ذلك الشعر وهو مكتوب على وزن الكامل.

ومع ذلك كله فإن قواعد الوتد في الرجز تنطبق على قواعده في الكامل ولو بدرجة أخف. ولذلك نلاحظ أن التدوير نادر الورود في البحر الكامل والبحر الطويل1 ويكاد يكون مستكرهًا ولو لم تنص كتب العروض على منعه. وإنما ذلك ملحوظ في دواوين الشعراء أنفسهم، ولسنا نراهم وقعوا فيه إلا اضطرارًا.

وخلاصة الرأي أن من مستلزمات الوتد أن يقف بين الحين والحين في نهاية الكلمة، وأن تكسر شوكته ببعض الوسائل الأخرى التي ذكرناها. ذلك أمر يحتمه الذوق وتتطلبه الأذن الشعرية، وقد صنعه الشعراء، وإن كان العروضيون لم يقرروه قط. حتى ابن مالك، في ألفيته النحوية المنظومة، قد التزمه. والحق أن منظومته، من وجهة نظر العروض، تتمتع بموسيقى مقبولة نفتقدها في أكثر شعر الرجز الحديث الذي شاع في السنين الماضية. وإنه لعار يحلق بالشعر الحديث أن تكون "منظومات" أسلافنا التعليمية أوفر موسيقى من قصائد شعرائنا المعاصرين. ونحن أشد أسفًا على ذلك لأننا ندري أن شعراءنا لا يقلون مواهب عن أولئكالقدماء، غير أن الاستهانة بالقواعد وقلة المبالاة بالخطإ قد باتت في عصرنا شبه نمط مضلل وقع فيه الجيل. وليس الذنب ذنب الحرية كما يظن أناس يحبون التقليد والجمود، وإنما هو ذنب الجهل وضعف السمع حينًا وذنب عدم المبالاة حينًا

-2-‌‌ الزحاف:في الشعر الحر


يعرف العروضيون الزحاف بأنه "تغيير يلحق بثواني أسباب الأجزاء في البيت" وهذه أمثلة له تعنينا في الشعر الحر

التفعيلة زحافها اسمها العروضي

متفاعلن مستفعلن الإضمار

مستفعلن مفاعلن الخبن

فاعلن فعلن الخبن

مفاعلتن مفاعيلن العصب

وأكثر ما يعنينا من هذه الأمثلة هنا، الزحاف الذي يمس تفعيلة الرجز فيحيلها من "مستفعلن" إلى "مفاعلن"، وهو مرض شاع شيوعًا فادحًا في الشعر الحر، واستهان به الشعراء، أو لم يحسوا به فتركوه يعيث في شعرهم ويفسد أنغامه. والواقع أن هذا الزحاف مباح في وزن الرجز، وقد ورد في شعر أسلافنا كثيرًا وكان وروده جميلًا مقبولًا لا مأخذ عليه. وإنما أبيح ذلك في وزن الرجز لأنه يدخل تنويعًا وتلوينًا على التفعيلة "مستفعلن"

حيث الانتقال منها إلى زحافها، بين الحين والحين، يدخل على القصائد الرجزية جمالًا وموسيقية. ولم يزل الشاعر العربي الحديث يلجأ إلى هذا التنويع الذي هو صفة عامة في بحر الرجز تدخل في تركيبه، والعروضيون يعترفون بها ويفسحون لها مجالًا في كتبهم وقواعدهم.

غير أن ما لم يكن يفعله الشاعر القديم قط، وإنما ينزلق إليه الشاعر المعاصر، هو أن يكتب أبياتًا كاملة، وأشطرًا، تفعيلاتها كلها مصابة بالزحاف. هذا، مثلًا، نموذج من شعر صلاح عبد الصبور. قال من الرجز:

وحين يقبل الماء يقفر الطريق والظلام محنة الغريب

وهو كما نلاحظ شطر ذو ست تفعيلات 

ومنه ندرك أن تفعيلات البيت الست جميعها مصابة بالزحاف دون أن يعبأ الشاعر، ولقد أصبح البيت، بسبب هذا الزحاف الثقيل المتعب، ركيك الإيقاع، ضعيف البناء، منفرًا للسمع. والواقع أنه يجمع ثلاثة من خمسة من عيوب الشعر الحر التي ندرسها في هذا الفصل، وللشاعر مندوحة عن ذلك بما يملك من رهافة شعرية نلمسها في بعض قصائده الأخرى. وكل ما يعوزه الانتباه واستكبار الخطإ.

وأما سائر أصناف الزحاف التي أشرنا إليها في أول هذا الفصل فسوف نتخطاها لأننا لا نراها تحدث إشكالات خاصة بالشعر الحر. ومنها زحاف

التفعيلة "فاعلن" وهو "فعلن" وقد ألف الشعراء أن يعزلوه في قصائد كاملة، وقلما يستعملون فيها أصل التفعيلة "فاعلن" إلا في النادر. ومن وزن المتدارك الأصلي "فاعلن" في شعرنا المعاصر قول ميخائيل نعيمة:

هللي هللي يا رياح 

وانسجي حول نومي وشاح

وبعد فما الزحاف، إذا أردنا أن ننظر إليه نظرة بسيطة، ونخرج عن تعريفات العروضيين؟ إنه علة تعتري البيت وليس أساسًا فيه. أو هو مرض يصيب التفعيلة، واختلال صغير نحبه لأنه لا يرد كثيرًا. تمامًا كما قد نحب خصامًا صغيرًا مع أصدقاء نعزهم، أو زكامًا يداهمنا يومين ثم ينصرف تاركًا لنا إحساسًا أقوى بعذوبة العافية وجمالها. فماذا يحدث لنا لو أن حياتنا استحالت كلها إلى خصومات وزكامات لا تنتهي؟ ألن يكون طعم الحياة إذ ذاك يشبه وقع قصيدة كل تفعيلاتها زحاف؟

ومن المؤسف أن يكون النادر اليوم في قصائد الرجز هو التفعيلة السليمة. إن شعرنا صار من المرض بحيث كدنا ننسى طعم العافية. وقد تفشى الزحاف الذي هو، في نظرنا، مسئول إلى حد كبير عن شناعة الإيقاع، والنثرية، وغيرهما مما يشكو الجمهور وجوده في الشعر الحر. والحق مع الجمهور

-3-‌‌ التدوير:

التدويرفي الشعرالعمودي


البيت المدور، في تعريف العروضيين، هو ذلك الذي "اشترك شطراه في كلمة واحدة بأن يكون بعضها في الشطر الأول وبعضها في الشطر الثاني" ومعنى ذلك أن تمام وزن الشطر يكون بجزء من كلمة نموذج ذلك قول المتنبي من الخفيف:

أنا في أمة تداركها اللـ

 ـه غريب كصالح في ثمود

فكلمة "الله" قد وقع بعضها في آخر الشطر الأول وبعضها في أول الشطر الثاني.

وللتدوير، في نظرنا، فائدة شعرية وليس مجرد اضطرار يلجأ إليه الشاعر. ذلك أنه يسبغ على البيت غنائية وليونة لأنه يمده ويطيل نغماته كما في هذه الأبيات من شعر أمجد الطرابلسي وهي من البحر الخفيف:

وحدة العرب قد تضوع في الجو 

شذاها مثل الخميل النضير

وحدة العرب مزقت حجب الليـ 

ـل وشعت ملء الفضاء المنير

وكما في أبيات علي محمود طه، من الهزج:

إذا ما طافَ بالشُّرْفَـ 

ـةِ ضوء القمر المضْنَى

ورفَّ عليكِ مثل الحلْـ

ـمِ أو إشراقِه المعنى

وأنتِ على فراشِ الطُّهْـ 

ـرِ كالزنبقة الوَسْنى

وإنما المحذور في "التدوير" هو أن العروضيين لم يتناولوه تناولًا ذوقيًّا، بل كان كل ما صنعوا أنهم على جواز وقوعه بين الأشطر، دونما إشارة إلى المواضع التي يمتنع فيها لأن الذوق لا يستسيغه. والواقع أن كل شاعر مرهف الحاسة، ممن مارس النظم السليم، ونما سمعه الشعري، لا بد أن يدرك بالفطرة أن هناك قاعدة خفية تتحكم في التدوير بحيث يبدو في مواضع ناشزًا يؤذي السمع. ولسوف نجد، حين ندرس دواوين الشعر العربي الجيد، أن الشعراء كانوا بفطرتهم يتحاشون إيراد التدوير في بعض المواضع، ولو أن كتب العروض لم تشر إلى ذلك على الإطلاق.

وإذن فما هذه المواضع التي ينبغي للشاعر فيها أن يتحاشى التدوير؟


 ملاحظتي الشخصية أن التدوير يسوغ في كل شطر تنتهي عروضه بسبب خفيف مثل "فعولن" في بيتي عمر أبو ريشة، من المتقارب:

رويدك لا تجرحي صمتك الر

هيب ولا تهتكي مئزره

فإني أحس به همهمات الـ

وحوش وخشخشة المقبره

ومثل "فاعلاتن" في البحر الخفيف ونموذجها من شعر سليمان العيسى:

وحدة تلهم الكواكب مسرا 

ها وتمشي في القفر ظلًّا ظليلا

وحدة تفجر الينابيع في الكو

 ن فراتًا يسقي العطاش ونيلا2

غير أن التدوير يصبح ثقيلًا ومنفرًا في البحور التي تنتهي عروضها بوتد مثل "فاعلن" و"مستفعلن" و"متفاعلن". وهذا نموذج لتدوير قائم على وتد من شعر محمد الهمشري من الكامل:

هي جنة الأشجار والأظلال والـ 

 أعطاء والأنغام والأنداء

وبسبب هذا العسر نجد أن الشعراء قلما يقعون في تدوير البحر "البسيط" أو "الطويل" أو "السريع" أو "الرجز" أو "الكامل". نعم، إن ورود بيت مدور في بحر من هذه البحور في قصيدة طويلة لشاعر متمكن شيء غير مستحيل، وفي وسعنا أن نعثر عليه إذا نحن قلبنا

الدواوين وصبرنا على البحث، غير أن ذلك نادر، وندرته ذات دلالة.

ومن هذا النادر قول المتنبي من الكامل:

الناعِماتُ القاتِلاتُ المُحيِيا 

 تُ المُبدِياتُ مِنَ الدَلالِ غَرائِبا

وله من الطويل:

وَكَم مِن جِبالٍ جُبتُ تَشهَدُ أَنَّني الـ 

ـجِبالُ وَبَحرٍ شاهِدٍ أَنَّني البَحرُ

والواقع أن التدوير هنا -حتى في شعر المتنبي- قد أساء إلى موسيقية الأبيات. ولو تجنبه الشاعر لكان أحسن.

وملاحظتي الثانية حول التدوير، وقد تكون ملاحظة غريبة، أنه وهو لا يسوغ في البحر الكامل، يسوغ في مجزوء الكامل، لا بل إنه يضيف إليه موسيقية ونبرة لينة عذبة. من ذلك البيت الثاني من قول البهاء زهير:

ما لي أَراكَ أَضَعتَني

 وَحَفِظتَ غَيري كُلَّ حِفظِ؟

مُتَهَتِّكًا فَإِذا حَضَر 

 تُ تَظَلَّ في نُسكٍ وَوَعظِ

متفاعلن متفاعلن 

 متفاعلن متفاعلاتن

ومن هذا الشعر في الحديث أبيات علي الجارم في قصيدته المشهورة:

يَا سَطْرَ مَجْدٍ لِلْعُرُو 

 بَه خُطَّ في لَوْحِ الْوُجُودِ

بَغْدَادُ إِنَّا وَفْدَ مِصْـ 

 ـرَ نَفيضُ بالشوْقِ الأَكِيدِ

أَهْلُوك أَهْلُونَا وَأبْـ 

 ـنَاءُ الْعَشِيرةِ وَالْجُدُودِ

حَتَّى يَكَادَ يُحِبُّ نَخـ 

 ـلَكِ نَخْلُ أَهْلِي في رَشِيدِ

متفاعلن متفاعلن

 متفاعلن متفاعلاتن

ومثل ذلك يمكن أن يقال عن بحر الرجز الذي يصح التدوير في مجزوئه كما في قول نزار قباني:

حدودنا بالياسميـ

 ـن والندى محصنه

وعندما الصخور ته

 وى والدوالي مدمنه

وإن غضبنا نزرع الـ 

 شمس سيوفًا مؤمنه

بلادنا كانت وكا 

 نت بعد هذي الأزمنه

في أرضهاكتبت هـ 

 ذي الأحرف الملحنه

ولعل السبب الذوقي الذي يبرر وقوع التدوير في مجزوء الكامل والرجز دون الكامل والرجز نفسهما أن المجزوء قصير بحيث لا يعسر فيه التدوير، ولعل للأمر تفسيرًا آخر يفوتني، والله أعلم.

التدوير في الشعر الحر:


ينبغي لنا أن نقرر، في أول القسم من بحثنا، أن التدوير يمتنع امتناعًا تامًّا في الشعر الحر، فلا يسوغ للشاعر على الإطلاق أن يورد شطرًا مدورًا. وهذا يحسم الموضوع.

وإذن فلماذا نكتب هذا الفصل؟

نفعل ذلك لأن امتناع التدوير في الشعر الحر ليس شيئًا معروفًا لجمهرة الشعراء الذين ينظمون هذا الشعر، وإنما نبدأ نحن بتقريره واستنباطًا وقياسًا على العروض العربي وانقيادًا للذوق الفطري. وليس يخفى أن كل قاعدة مقررة إنما بدأت بأن استنبطها إنسان ما، فذلك سائغ ولا مأخذ عليه.

وإنما ينبغي لنا أن نبرر هذا المنع من جهة، وأن نشير إلى ما يقع فيه الناشئون من أخطاء، في هذا الباب، من جهة أخرى.

وأحب أن أقول أولًا أنني لست ممن يمنع الأساليب الجديدة لمجرد أنها لم تسمع من العرب، وذلك لأن تطور الظروف والأحوال في البيئة قد يستدعي تطور القواعد. وإنما اعتمادنا دائمًا على الذوق والمنطق الأدبي والفطرة الشعرية التي نملكها وهي، بلا ريب، شديدة التأثر بأحوال العصر الذي نعيش فيه. وذلك بالإضافة إلى مقاييس العروض العربي والمسموع من شعرنا القديم عبر مئات السنين.

أسباب امتناع التدوير في الشعر الحر


أسباب امتناع التدوير في الشعر الحر، في رأيي، فأنا أبسطها فيما يلي:

أولًا- لأن الشعر الحر شعر ذو شطر واحد كما سبق أن أوضحنا. وذلك يتضمن الحقائق التالية:

أ- كان شعر الشطر الواحد لدى العرب، في العصور كلها، قديمًا وحديثًا، شعرًا يستقل فيه الشطر استقلالًا تامًّا فلا يدور آخره. وذلك منطقي وهو يتمشى مع معنى التدوير الذي لا يقع إلا في آخر الشطر الأول ليصله بالشطر الثاني، وذلك في القصائد ذات الشطرين وحسب. وعلى ذلك فإن التدوير ملازم للقصائد التي تنظم بأسلوب الشطرين وحسب.

ب- لأن التدوير يعني أن يبدأ الشطر التالي بنصف كلمة وذلك غير مقبول في شطر مستقل. وإنما ساغ في الشطر الثاني من البيت لأن الوحدة هناك هي البيت الكامل لا شطره. وأما في الشعر

لحر فإن الوحدة هي الشطر، ولذلك ينبغي أن يبدأ دائمًا بكلمة لا بنصف كلمة كما في فقرة جورج غانم التالية من المتقارب:

لأهتف قبل الرحل

ترى يا صغار الرعاة يعود الر

فيق البعيد

ج- لأن شعر الشطر الواحد ينبغي أن ينتهي كل شطر فيه بقافية "أو على الأقل بفاصلة تشعر بوجود قافية". ومن خصائص التدوير أنه يقضي على القافية لأنه يتعارض معها تمام التعارض. وهذه حقيقة تفوت الشعراء الناشئين. وبسببها يضيعون قوافيهم التي يجهدون لها أحيانًا. والمثال السابق من شعر جورج غانم نموذج لما نقول. فقد انتهى الشطر الثاني بالقافية "يعود" وهي تتجاوب مع قافية الشطر الثالث "البعيد". على أن مجيء التدوير في الشطر الثاني قد جعل تقطيع الشطر كما يلي:

ومعنى ذلك أن القافية "البعيد" أصبحت تقابل كلمة "يعودر"وبذلك ماتت القافية. وكان على الشاعر أن يضحي بواحد من اثنين: القافية أو التدوير. ولسنا ندري لماذا لم يقل مثلًا:

ترى يا صغار الرعاة يعود

رفيقي البعيد

وإذا كان يريد أن يجعل "يعود" قافية، ويحسب أن الشطر قد انتهى عندها، فكيف فاته أن بداية الشطر التالي "الرفيق البعيد" كانت حرفًا ساكنًا هو همزة الوصل؟ ومتى كان البيت العربي يبدأ بساكن؟

ثانيًا- يمتنع التدوير في الشعر الحر لأنه شعر حر، أعني أن الشاعر فيه قادر على أن ينطلق من القيود، ومن ثم فإن ذلك يجعله في غير حاجة إلى التدوير. وما التدوير، لو تأملنا، إلا لون من الحرية يلتمسه الشاعر الذي كان مقيدًا بأسلوب الشطرين حيث الشطر الأول ذو طول معين لا ينبغي أن يزيد، فكان الشاعر يطيله بالتدوير ليملك بعض الحرية. ومن ثم فلماذا يريد الشاعر تدوير أشطره في القصيدة الحرة؟

الحقيقة أنه ليس من سبب يبرر ذلك على الإطلاق. فالشعر الحر يبيح للشاعر أن يطيل الشطر وفق حاجته، وبذلك يتخطى الشطر القديم الذي كان يقيد الشاعر. وإذا كان الشاعر قبل يستعمل تدويرًا يطيل به الشطر الأول فإن الشاعر الحر يستطيع أن يطيل شطره دون تدوير، وذلك بأن يرص الشطرين المدور أولهما معًا في شطر واحد؛ لأن ذلك مباح في الشعر الحر، وهو في الواقع مزيته. وفي هذه الحالة يصبح التدوير بلا معنى على الإطلاق. وقد كانت أشطر جورج غانم تشير إلى هذا بوضوح، فقد قال في شطرين:

ترى يا صغار الرعاة يعود الر

فيق البعيد

وهذا شيء لا ضرورة له، ففي وسعه أن يقول في شطر واحد متناسق:

ترى يا صغير الرعاة 

يعود الرفيق البعيد.

وقد رأينا مما سبق أن القافية "يعود" في الشطر الواحد ليست أقل ضياعًا منها في شطرين، وذلك لأن التقسيم القسري لشطر واحد إلى شطرين لا ينقذ هذين الشطرين من أن يبقيا شطرًا واحدًا في الواقع.

وبعد، فإن كون الشعر الحر يمنح الشاعر حرية إطالة أشطرهوتقصيرها والوقوف حيث يشاء بحسب مقتضى المعنى، ينفي الحاجة إلى التدوير أصلًا. فإذا احتاج الشاعر إلى شطر طويل فإن في وسعه أن يكتبه بلا تدوير. بدلًا من أن يكتب شطرًا ذا ثلاث تفعيلات مدورًا بحيث يفضي إلى شطر آخر ذي ثلاث تفعيلات، فإن في إمكانه أن يجمع الشطرين في شطر واحد ذي ست تفعيلات. أو لم نبح له ذلك في الشعر الحر؟

فما الداعي إلى التدور إذن؟

وقد يعترض علينا شاعر بأن يقول "إني إنما أجعل الأبيات مدورة في أشطر متتالية كثيرة لأن العبارة التي أكتبها تستغرق أشطرًا كثيرة. أو لم تبيحوا لي أن أطيل العبارة التي أكتبها تستغرق أشطرًا كثيرة. أو لم تبيحوا لي أن أطيل العبارة كما أشاء؟ " 

والواقع أن في هذا السؤال وهمًا واضحًا. ذلك أن التدوير ليس ملازمًا للعبارة الطويلة، فقد تكون العبارة قصيرة ويدوِّر الشاعر البيت مع ذلك، وقد تكون طويلة دون أن يحتاج إلى تدوير البيت. ولماذا تستغرق أية عبارة طويلة عشرة أشطر مدورة؟ لماذا لا تستغرق عشرة أشطر غير مدورة؟ إن التدوير، لو تأملنا، لا يتصل بطول العبارة، وإنما هو محض انشطار الكلمة إلى شطرين كل منهما ينتمي إلى تفعيلة. ومن ثم فإنه قد يقع في كل شطر من قصيدة عبارتها قصيرة، فتبدأ العبارة في منتصف الشطر المدور وتنتهي في النصف الثاني، ثم تبدأ عبارة جديدة في منتصف شطر مدور ثان وتنتهي في الشطر التالي. وكذلك فلا صلة للتدوير بطول العبارة.

ثم إن هناك سؤالًا شديد الأهمية ينبغي للشاعر أن يلقيه على نفسه، السؤال حول الطول الممكن للعبارة في أية قصيدة ذات إيقاع وموسيقى. فلنفرض أننا أبحنا للشاعر أن يطيل شطره "ذا التفعيلة المكررة" إلى ما شاء الله. فهل يستسيغ سمعه أن يورد أكثر من ست تفعيلات أو ثمان في الشطر الواحد؟ الجواب على هذا قد ثبت لي بالتجربة الطويلة وقراءة مئات من قصائد الشعراء. أن ذلك غير سائغ ولا مقبول لأن الغنائية في تفعيلات العشر تفقد حدتها وتأثيرها حين تتراكم تفعيلات متواصلة لا وقفةعروضية بينها، 

ذلك فضلًا عن أن تواتر التفعيلات الكثيرة مستحيل لأنه يتعارض مع التنفس عند الإلقاء. لا بل إنه يتعب حتى من يقرؤه قراءة صامتة بما يحدث من رتابة. وسرعان ما نمجه ونرفض أن نقرأه. ولننظم مثالًا من البحر الكامل تتوافر فيه "متفاعلن" بلا وقفة مع غلبة التدوير:

طلعت نجوم الليل تفرش ظلمة الأحراش

أحلامًا طريات ورش العطر خد الليل والدنيا

تلفع كل ما فيها بأستار الظلام المدلهم البارد

لقبري وانتاب المدى خوف من المجهول، يا

قلبي تيقظ واترك الأوهام تجني كل

اقات الأماني. أمسك الجذلان بالأفراح

والرغبات قد نفض النعاس وعاد يملأ مشرق

الدنيا ضياء وابتسامات فدع فتن الصباح

المشرق المسحور ينفذ لا تكن حيران مقطوع الرؤى …

أليس هذا نظما سمجًا، ميتًا، لا يحتمل؟ إن قراءته غير ممكنة، وهو لترادفه السريع ممل رتيب يتعب السمع ويضايق الحس الجمالي لدى القارئ. وأبرز ما ينقصه هو الوقفات. ذلك أن السكتة في آخر الشطر والبيت كانت وما زالت عنصرًا "مهمًّا" في القصيدة. إن للسكوت وقعًا شعريًّا يعادل وقع الأشطر نفسها. ومن دون هذا السكوت يموت الشعر كما رأينا.

والظاهر أن كثيرًا من الذين ينظمون الشعر الحر ينسون هذه الحقيقة، ولذلك نراهم يرصون لنا أشطرًا كثيرة مدورة هي في الحقيقة كلها شطر واحد.وما أحراهم بأن ينتبهوا

ملاحظة ختامية:

أصبح الشعراء المحدثون اليوم ينظمون قصائد طويلة كل أشطرها مدورة، أو لنقل إنها تتألف من شطر واحد طويل في الحقيقة لما سبق أن قررناه من أن التدوير يمتنع في الشعر الحر. ولسوف يبدو أن ما نظمتُهُ سنة 1962 لكي يكون مثالًا للرداءة قد أصبح بعد عام 1986 قاعدة تحتذى ونموذجًا يطيعه عشرات الشعراء اليافعين. ومثال ذلك قصيدة حسب الشيخ جعفر "السيدة السومرية في صالة الاستراحة" وفيها يقول:

"تخيرني وجهك السومري مطارًا، فما لي سوى أن أرحب أو أن أودع، سيدتي كنت لي نجمة في سماء المخازن تؤنسني كلما انحسر المشترون، اتركيني ألم تقاطيع وجهك في الحائط المتآكل في أور، في صالة الاستراحة، في أوجه العارضات النحيفات، عودي تماثيل في باطن الأرض أو المتاحف بيني وبين الشحوب الذي لمستْهُ يدي برهة".

وأمثال هذا شائعة لدى اليافعين اليوم، ولن أتناوله بالدراسة في هذا الكتاب وإنما مكانه كتاب ثانٍ أشتغل الآن في تأليفه




-4-‌‌ التشكيلات الخماسية والتساعية:


جاء الشعر الحر بالحرية وأصبح في مقدور الشاعر أن يزيد التفعيلات في الشطر وينقصها كما يشاء وفق القيود والشروط التي ذكرناها في الفصول السابقة. وقد أدى ذلك إلى أن ينظم الشعراء أشطرًا تتنوع أعداد تفعيلاتها من الواحدة إلى العشر. وكان أن جابهنا في الشعر العربي الأشطر ذات الخمس تفعيلات.

ونحن حريون أن ننبه أولًا إلى أن الشعر العربي، في مختلف عصوره، لم يعرف الشطر ذا التفعيلات الخمس، وإنما كان الشطر يتألف إما من تفعيلتين كما في الهزج والمجتث والمضارع، أو من ثلاث كما في الرجز والرمل والكامل، أو من أربع كما في الطويل والبسيط والمتقارب والخبب. وعند هذا وقف الشاعر، فلم نقرأ له أشطرًا ذات خمس تفعيلات إطلاقًا.

وأما في المجزوء فإن طول الشطر لم يزد على تفعيلتين أو ثلاث. وعندما يكون الشطر المجزوء مدورًا فإن طول الشطر يصبح -في الواقع لا في الاعتبار- ست تفعيلات وإن سميناه بيتًا؛ لأن المدور، في حقيقته، شطر لا شطران. وهذا قد كان الطول الأقصى للشطر العربي وجاء المعاصرون وتناولوا الحرية التي أباحها لهم الشعر الحر فخرجوا على قانون الأذن العربية ونظموا أشطرًا ذات خمس تفعيلات. وكان ينبغي لهم، إذ ذاك، أن يتوقفوا ويدرسوا هذه المسألة ويقرروا مدى نجاحها. فلماذا لم يكتب العرب شعرًا خماسي التفعيلات على الإطلاق؟ أو كان ذلك مصادقة واعتباطًا؟ أم أن للعدد خمسة صفة تجعله لا يصلح في شعر لدن ذي إيقاع؟ على أن المعاصرين، شعراء ونقادًا، لم يعنوا ببحث هذه الأسئلة ولم يقفوا عندها. لا بل إن مجابهتنا بالأشطر الخماسية لم تُثر أي صدى فكأن العرب قد ألفوا ذلك. ومضى الشعراء يكتبون أشطرًا خماسية دونما تعليق.

وكان ذلك كله ينم عن الإهمال، إهمال من الشعراء الذين يكتبون بأسلوب جديد فلا يعنون حتى بالإشارة إلى ذلك، وإهمال من النقاد الذين تمر بهم ظاهرة كهذه فلا تلفت أنظارهم. وإنما كان ينبغي أن تدرس القضية فإما أن تُقر باعتبارها تجديدًا يقبله الذوق المعاصر، أو أن ترفض لأنها نشاز موسيقي تأباه الأذن العربية. ولعلنا نعتب على العروضيين أكثر مما نعتب على سواهم، لما في أيديهم من سبل النقد الشعري وما لهم في أنفسنا من ثقة. على أن أكثرهم فيما نعلم قد استكبر أن ينظر في الشعر الحر، وأنف أن يعده شعرًا بحيث ينزل إلى نقده بمقاييس العروض الصلدة، ومن ثم فماذا يعنيه أن ترد فيه خمس تفعيلات أو لا ترد؟ ومهما تكن الأسباب، فإن الشعراء راحوا يقعون في الشطر الخماسي دون أن ينتبهوا إلى شناعة وقعه في السمع وقبح إيقاعه.

هذا نموذج من قصيدة لفدوى طوقان سبق أن اقتبسنا منها:

تحبني صديقي المقرب

"أربع تفعيلات":

صداقة حميمة تشدني إليك من سنين

"خمس":‌‌

وقولها في القصيدة نفسها:

قبلك من سنين من سنين  

 ثلاث":

نشدتها مذ كنت طفلة حزينة مع الصغار

"خمس":

وحين فتحت براعمي ورعرع الصبا النضير

"خمس":

وضمخ الجواء بالعبير

ومثل ذلك في قصيدة عنوانها "جيكور والمدينة" لبدر شاكر السياب:

تقول يا قطار يا قدر

"ثلاث":

قتلت إذ قتلته الربيع والمطر

"أربع":

وتنشر الزمان والحوادث الخبر

"أربع":

والأم تستغيث بالمضمد الخفر

"ثلاث":

أن يرجع ابنها يديه، مقلتيه، أيما أثر

"خمس"

وترسل النواح يا سنابل القمر

"أربع":

لعل هذه النماذج تخبرنا هي نفسها لماذا لم يرتكب العرب الوقوع في التفعيلات الخماسية، ذلك أنها تبدو قبيحة الوقع، عسيرة على السمع، بحيث لا نحتاج إلى أكثر من إيرادها للتدليل على ضرورة تحاشيها.

ومما لا يقبل كذلك استعمال تشكيلة ذات تسع تفعيلات، ومثالها قصيدة لخليل الخوري، من المتقارب. قال:

تمر ليال أحس بها أنني لن أكحل جفني بمرأى الصباح

ليالٍ أرى الموت فيها على قاب قوس وأدنى يمد إليَّ الجناح

وأسمع دقات قلبي مجنونة كالرياح كعصف الرياح

يرد صداها جدار الظلام ويذرو حبيباتها فهي رجع نواح

فأبسم مستسلمًا غير أني إذا ما أطل على الكون فجر ولاح

أراني ما زلت أحيا كما كنت لا الموت جاء ولا ثار حولي الصياح

إن كل شطر في هذه القصيدة ذو تسع تفعيلات وهو -كما نظن أن القارئ يقرنا عليه- أطول مما ينبغي لشطر واحد. وليس لنا مفر من أن نعده شطرًا واحدًا لأن العدد تسعة لا ينقسم على اثنين بحيث نستطيع أن نرصفه على شطرين فنخفف بذلك من ثقله. ولقد كنا نستطيع أن نقسمه على ثلاثة أشطر ولو أن الشاعر أراد ذلك وأحدث له الوقفات اللازمة في ثنايا الشطر. والواقع أن قابلية العدد تسعة للقسمة على ثلاثة تجعل إطالة الشطر إليه أمرًا غير مقبول، فماذا كان يضير الشاعر أن يقول هذا مثلًا:

فأبسم مستسلمًا غير أني إذا ما أطل

على الكون فجر ولاح

أراني ما زلت أحيا كما كنت لا الموت جاء 

ولا ثار حولي الصياح

إن ثقل التفعيلات التسع يأتي من ناحيتين: أولاهما أن العرب لم يكتبوا شطرًا مدورًا أطول من ثماني تفعيلات، وثانيهما أن الرقم تسعة هو نفسه ثقيل الوقع في السمع، كالرقم خمسة تمامًا. فليس الطول وحده هو الثقيل فيه، وإنما لأنه أيضًا ذو تسع تفعيلات.

أما السبب في كون العددين خمسة وتسعة لا يردان في الشعر العربي فلعله يحتاج إلى دراسة للمقاطع تكشف السر فيه.

ملاحظة ختامية:

نبه أكثر من أديب إلى أنني أنا نفسي أستعمل التشكيلات الخماسية فيشعري، وقد أدهشني هذا فرجعت إلى قصائدي فإذا الأمر صحيح. ومن ثم فإن الظاهر أنني مجزأة إلى جانبين: جانب مني ذهني يرفض كل تشكيلة خماسية رفضًا كاملًا، وجانب مني سمعي يتقبلها ولا يرى فيها ضيرًّا. أو نقل أن الناقدة فيَّ تفرض، والشاعرة تتقبل.

ولقد أجريت تجربة عام 1968 فنظمت قصيدة مقطوعية كل أشطرها خماسية وعنوانها "ضوء القمر" وقد نشرتها مجلة في القاهرة أظن اسمها كان "مجلة الشعر" ورئيس تحريرها صلاح عبد الصبور، وقد صدر منها عدد واحد وتوقفت. ولكني ما زلت أنفر من هذه القصيدة ولا أحبها بسبب خماسية تفعيلاتها، وقد رفضت أن أدخلها مجموعاتي الشعرية المطبوعة. بعد هذا، سأترك الشعراء والقراء يحكمون في قضية التشكيلات الخماسية بما يرونه مناسبًا، ما دمت قد أعلنت حقيقة موقفي إعلانًا أمينًا

-5-‌‌ مستفعلان في ضرب الرجز:


يقع بعض الذين ينظمون قصائد من بحر الرجز في خطإ شنيع هو أنهم يوردون التفعيلة "مستفعلان" في ضربه، ولا يقع هذا في الشعر العربي قط لأن الأذن تمجه. ولعل خير دليل نقدمه على شناعة وقع "مستفعلان" هذه في ضرب الرجز ما نجده في كتب النحو العربي حين يتحدثون عن أنواع التنوين فيسمون التنوين في خاتمة بيت رؤبة التالي "غاليًا" أي صعبًا عسيرًا لا ينبغي أن يرد:

وقائم الأعماق خاوي المخترقن

مشتبه الأعلام لماع الخفقن

وظاهر أن التفعيلة الأخيرة هنا قد التقى فيها ساكنان وباتت مماثلة لمستفعلان "ما عدا أن القاف فيها حرف صيح لا لين". وإنما سموا النون هنا "غالية" لأنها وردت في مكان غير مقبول من تفعيلة الرجز التي ترفضها. وليس في الشعر العربي كله، عدا هذه النون، تشكيلة لبحر الرجز تنتهي بـ "مستفعلان". ومن الواضح أن بيت رؤبة شاهد نحوي، وكثيرًا ما يتعسف النحاة في التماس الشواهد وأما لماذا أورد المعاصرون "مستفعلان" هذه في خواتم تشكيلات الرجز في شعرهم الحر، فلعل التعليل الوحيد له أن الشاعر الناشئ سمع أن في الشعر الحر حرية فظن أن معنى تلك الحرية أن يخرج على العروض وقواعده، وحتى على الأذن العربية وما تقبله. وغاب عنه أن العروض هو الموسيقى ولا سبيل إلى الخروج عليه ما دمنا ننظم شعرًا. ولا ريب أن اصطلاحنا "الشعر الحر" لا يسمح بمثل هذه التأويلات الفضفاضة التي وقع فيها الشعراء لأننا احترزنا بكلمة "الشعر" عن أن نقصد بالاصطلاح الخروج على ما هو أساسي في كل شعر وهو الموسيقى. وأما "الحرية" فقد شرحناها بأنها التحرر من التقيد بالشطرين المتساويين في الطول. ومن ثم فإذا نظمنا قصيدة حرة، على زن الرجز، فمن المنطقي أن نتقيد بقوانين العروض الخاصة ببحر الرجز جميعًا، ما عدا التقيد بعدد معين من التفعيلات في كل شطر.

وقد بدأت الفوضى في بحر الرجز على يد قلة من الشعراء الناشئين كما أذكر، وكنت وأنا أرقب ما تنشر الصحف أعتقد أن الراسخين من الشعراء، الذين مارسوا النظم بأسلوب الشطرين طويلًا، سوف يتحاشون الوقوع في هذه الفوضى، 

ومن هؤلاء نزار قباني مثلًا وقد سبق له من بحر الرجز في ديونه الأول:

تقول لي مكسورة الأهداف عم تبحث؟

قلت أضعت قبلة وفقدها كم يورث

قد قفزت مني وفوق الثغر منك تمكث

سمراء رديها إلي ليس بي تريث

هنا نرى نزار قباني لا يأتي بتشكيلة فيها "مستفعلان" غير أنه يقع في ذلك عندما يخرج إلى سماء الحرية في الشعر الحر بعد ذلك بسنوات وكأنه نسي حتى أذنه الموسيقية وتحرر منها فنسمعه يقول:

أكتب للصغار

للعرب الصغار حيث يوجدون

"مفاعلان":

أكتب للذين سوف يولدون

"مفاعلان":

أكتب للصغار

قصة بئر السبع واللطرون والجليل

واختي القتيل

هناك في بيارة الليمون أختي القتيل

"مفاعلان":

إذ كان في يافا لنا حديقة ودار

يلفها النعيم

وكان والدي الرحيم

"مفاعلان":

مزارعًا شيخًا يحب الشمس والتراب

وكذلك نجد هذا الخطأ لدى فدوى في قصيدتها "تاريخ كلمة" التي سبق أن اقتطفنا منها ذلك حيث تقول:

ومرت الأيام يا صديقي الأثير

جديبة مطمورة بالثلج بالأسى المرير

"مفاعلان"

وقلبي الوحيد ينطوي على جفافه على ظماه2

"مفاعلان":

إن هذا شنيع. وأنا على يقين من أن نزار وفدوى -وكلاهما شاعر مرهف ذو موهبة صافية- سوف يلاحظان معنى ما أقول فورًا ويقران أنه ناشز. وإنما يقعان فيه، على ما أظن، وهما يشعران بنفور منه. غير أن دوار الحرية قدأصابهما فيمن أصابه، فجعلهما يسكتان صوت فطرتهما الشعرية. ولعل هذا هو أيضًا شأن غير قليل من الشعراء الذين نشئوا بعد نزار وفدوى مثل صلاح عبد الصبور وغيره. ونحن نتمنى أن يعود هؤلاء الشعراء إلى صوت فطرتهم التي تلهمهم وأسماعهم العربية ليتبينوا الصواب من الخطإ. ولا أظنه يضير الشاعر المعاصر أن يدرس العروض ولو دراسة عابرة، فإنما وجد العروض ليعين الشعرا أكثر مما يعين الناظمين. وإنما يفهم العروض الفهم الحق الشاعر الموهوب. وأما الناظم فمهما درسه فإن جوانب منه تبقى غامضة عليه، فضلًا عن أنه لا يستطيع أن يبدع فيه، وقصارى ما يملك أن يقيس على الموازين قياسًا انطباقيًّا جامدًا.

والواقع أن الشعر ليس موهبة وحسب، وإنما هو نظم قبل ذلك، وللنظم قواعده وأسسه. فإذا كان الشاعر الموهوب، بكل موهبته التي يعتز بها، ينظم الشعر ويخطئ في الوزن، فما باله يزدري العروض ويترفع عن دراسته إذن؟

-6-‌‌ فاعل في حشو الخبب:


المعروف أن تفعيلة الخبب "فعلن" ليست إلا زحافًا يعتري تفعيلة المتدارك الأصلية "فاعلن". وبتكرار فعلن هذه ينشأ وزن الخبب أو "ركض الخيل" كما يسمونه أحيانًا. والمعروف أيضًا أن العرب لم يستعملوا هذا الوزن إلا نادرًا. ولعل ذلك هو الذي جعل الخليل ينساه فلا يحصيه في بحوره الخمسة عشر، وإنما استدرك به الأخفش وسماه لذلك "المتدارك".

ويتميز هذا الوزن بخفته وسرعة تلاحق أنغامه، كما نرى من نموذجه التالي المشهور:

يا ليل الصب متى غده؟ 

أقيام الساعة موعده

رقد السمار وأرقه 

أسف للبين يردده

فبكاه النجم ورق له 

 مما يرعاه ويرصده

كلف بغزال ذي هيف

 خوف الواشين يشرده

نصبت عيناي له شركًا

 في النوم فعز تصيده

صنم للفتنة منتصب

 أهواه ولا أتعبده

صاح والخمر جنى فمه

 سكران اللحظ معربده1

وهذه الخفة وتلك السرعة تجعلانه لا يصلح إلا للأغراض الخفيفة الظريفة، وإلا للأجواء التصويرية التي صح فيها أن يكون النغم غالبًا. وإنما يثبت فيه هذه الصفة ما نراه من تقطع أنغامه، فكأن النغم يقفز من وحدة إلى وحدة. وسبب ذلك أن "فعلن" تتألف من ثلاث حركات متوالية يليها ساكن "وهو ما يسمى بالفاصلة الصغرى" وهذا التوالي الذي يعقبه سكون في كل تفعيلة يُسبغ على الوزن صفته الملحوظة فكأنه يقفز. وذلك هو الذي جعلهم يسمونه "ركض الخيل" أحيانًا.

والظاهر أن الشاعر العربي كان يضيق بهذا التقطع في وزن الخبب فيعمد إلى التخفيف منه بإسكان العين في "فعلن" بين الحين والحين وبذلك يتحول السبب الثقيل إلى سبب خفيف ويزول العناء. وذلك واضح في قصائد الخبب كلها ومنها قصيدة الحصري السابقة 

ينضو من مقلته سيفًا

 وكأن نعاسًا يغمده

إن في هذا البيت أربع تفعيلات مخففة وأربعًا على الأصل وذلك يكبح جماح الحركة ويخفف منها. فضلًا عن أنه يضيف تنويعًا وتلوينًا إلى تفعيلات البحر الرتيبة.

ثم جاء العصر الحديث فإذا نحن نحدث تنويعًا جديدًا لم يقع فيه أسلافنا. ذلك أننا نحول "فعلن" إلى "فاعل". وليس في الشعراء، فيما أعلم، من يرتكب هذا سواي، بدأت فيه منذ أول قصيدة حرة كتبتها سنة 1947 ومضيت فيه حتى الآن. هذا مثلًا مطلع قصيدتي "لعنة الزمن"من الخبب:

كان المغرب لون ذبيح

والأفق كآبة مجروح

ووزن الشطر الأول فيه هو:

فعلن فاعل فاعل فعل

وقد جرت أشطر كثيرة في القصيدة على هذا النسق، خلافًا للقاعدة العروضية في الخبب. وأنا اقر بأنني وقعت في هذا الخروج من غير تعمد. وقد ألفت أن أنظم الشعر بوحي السليقة، لا جريًا على مقياس عروضي، تحملني خلال عملية النظم موجة الصور وللشاعر والمعاني والأنغام، دون أن أستذكر العروض والتفعيلات. وإنما تتدفق المعاني موزونة على ذهني ومن ثم فإن "فاعل" قد تسربت إلى تفعيلاتي "الخببية" وأنا غافلة. وحين انتهيت من القصيدة كان نغمها يبدو لي من الصحة والانثيال الطبيعي بحيث لم أنتبه إلى ما فيه من خروج عن تفعيلة الخبب وسرعان ما احتج علي الدكتور جميل الملائكة منبهًا إلى خروجي عن تفعيلة الخبب. وقد أدركت فورًا أنه على حق وأن تفعيلتي دخيلة. وجلست أفكر، مندهشة، في سبب هذا الذي وقع لي. فكيف ولماذا جاز أن تقبل أذني الممرنة خروجًا على الوزن مثل هذا؟

وجاء الجواب بعد قليل من التأمل، وكان جوابًا بسيطًا واضحًا: أن أذني، على ما مر بها من تمرين تقبل هذا الخروج ولا ترى فيه شذوذًا، فليس هو خطأ وقعت فيه، وإنما هو تطوير سرت إليه وأنا غافلة. ومعنى ذلك أن "فاعل" لا تمتنع في بحر الخبب، لأن الأذن العربية تقبلها فيه. وإذن فلماذا لم يقرها العروضيون؟ وهل من حقي أنا أن أثبت تفعيلة جديدة في بحر عربي ضبط منذ عصور طويلة؟

الواقع أنه ليس من حقي، كما أنه ليس من حق أي شاعر أن يفعل ذلك. إنما يقرر القواعد القبول العام. نعم، لقد قرر الخليل قواعد جديدة، غير أن تقريره ذلك لم يكن هو الذي ثبتها، وإنما ثبتت حين قبلها الشعراء المتمكنون والعارفون في عصره. وكذلك لن تثبت تفعيلتي الجديدة إلا إذا لقيت موافقة العروضيين.

والحق أن قليلًا من التأمل في التفعيلتين "فَعِلن" و"فاعلُ" لا بد أن يقودنا إلى أنهما متساويتان من ناحية الزمن تساويًا تامًّا لأن طولهما واحد. وفي وسعنا التأكد من ذلك بأسلوب العروضيين.

ف ع ل ن – ف اع ل

- - - 5 - 5 - -

فإن بين أيدينا هنا تفعيلتين تحتوي كل منهما على ثلاثة متحركات وساكن واحد. وإنما الفرق بينهما في مواضع المتحركات والساكن. ويظهر ذلك واضحًا حين نكتب التفعيلتين بلغة الموسيقى:

ومعنى ذلك أن كلتا الوحدتين مكونة من ضربتين قصيرتين وضربة طويلة. وإنما تقع الطويلة في مطلع "فاعلُ" وفي آخر "فعلن".

ومن الناحية الموسيقية يستوي عدد الأجزاء في التفعيلتين فكلاهما يتألف من أربعة أجزاء.

وكل هذا يجعل ورود "فاعلُ" في الخبب سائغًا مقبولًا حتى ليصح، في عقيدتي، أن نكتب قصيدة خببية وزنها كما يلي:

فاعلُ فاعلُ مفتعلن

أقبل فجرك يا وطني

إن الأذن العريبة تقبل هذا، فكيف بها وهو يرد، على وجه التنويع غير وزن الخبب؟

هذا إذن هو السبب الذي جعلني أتمسك بتفعيلتي الدخيلة، والواقع أنني لم أزل أستعملها في حشو الخبب ومنه في آخر قصيدة كتبتها منه:

وعد في شفة الزنبق غطى المرج شذاه

وتألق فجر منبثق فوق مسافات مبهوره

ونسائم تعبر في وديان مسحورهْ

إن شاء الله رؤى أغنية طافحة وندى وصلاهْ

ورأيي أن إقرار ذلك قاعدة في بحر الخبب يضيف سعة وليونة إلى هذا البحر يضيق بفواصله الصغرى كما بيَّنا

والرأي الأخيرة لأغلبية العروضيين والشعراء المتمكنين في الوطن العربي



المصادر


قضايا الشعر المعاصر

نازك الملائكة








حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-