أساليب التكرار في الشعرالحديث.

أساليب التكرار في الشعرالحديث




أساليب التكرار في الشعرالحديث


على الرغم من أن التكرار كان معروفًا للعرب منذ أيام الجاهلية الأولى، وقد ورد في الشعر العربي بين الحين والحين، إلا أنه في الواقع لم يتخذ شكله الواضح إلا في عصرنا. 

وقد جاءت على أبناء هذا القرن فترة من الزمن عدوا خلالها التكرار، في بعض صوره، لونًا من ألوان التجديد في الشعر. ومن المؤكد أن الاتجاه نحو هذا الأسلوب التعبيري ما زال في اطراد بحيث يصح أن نرقبه، ونقف منه موقفًا يقظًا. أقول هذا لا لأنني أعده أسلوبًا رديئًا، فهذا بعيد عن رأيي، وإنما لأنه -حين يعد أسلوبًا سهلًا- يستطيع أن يردي شعر أي شاعر إلى هاوية.

ذلك أن أسلوب التكرار يحتوي على كل ما يتضمنه أي أسلوب آخر من إمكانيات تعبيرية. إنه في الشعر مثله في لغة الكلام، يستطيع أن يغني المعنى ويرفعه إلى مرتبة الأصالة، ذلك إن استطاع الشاعر أن يسيطرعليه سيطرة كاملة، ويستخدمه في موضعه، وإلا فليس أيسر من أن يتحول التكرار نفسه بالشعر إلى اللفظية المبتذلة التي يمكن أن يقع فيها أولئك الشعراء الذين ينقصهم الحس اللغوي والموهبة والأصالة.

والقاعدة الأولية في التكرار، أن اللفظ المكرر ينبغي أن يكون وثيق الارتباط بالمعنى العام، وإلا كان لفظية متكلفة لا سبيل إلى قبولها. كما أنه لا بد أن يخضع لكل ما يخضع له الشعر عمومًا من قواعد ذوقية وجمالية وبيانية. فليس من المقبول مثلًا، أن يكرر الشاعر لفظًا ضعيف الارتباط بما حوله، أو لفظًا ينفر منه السمع، إلا إذا كان الغرض من ذاك "دراميًّا" يتعلق بهيكل القصيدة العام. وستوضح نماذج الشعر التي اخترتها ما أقصد بهذا. كما أن البحث لن يخلو من نماذج للتكرار الرديء الذي يصدم الحس الجمالي ويخرج عن الغرض الذي ينبغي أن يقصد إليه أي تكرار.

ولعل أبسط ألوان التكرار، تكرار كلمة واحدة في أول كل بيت من مجموعة أبيات متتالية في قصيدة، وهو لون شائع في شعرنا المعاصر، يتكئ إليه أحيانًا صغار الشعراء في محاولتهم تهيئة الجو الموسيقي لقصائدهم الرديئة، حتى كثرت القصائد التي يبدأ كل بيت فيها بألفاظ مثل "أنت" و"تعالي" و"هنا" ونحوها. ولا ترتفع نماذج هذا اللون من التكرار إلى مرتبة الأصالة والجمال إلا على يدي شاعر موهوب يدرك أن المعول في مثله، لا على التكرار نفسه، وإنما على ما بعد الكلمة المكررة، فإن كان مبتذلًا، رديئًا، سقطت القصيدة، وإلا فهي في مستوى قصيدة الهمشري "إلى جتا الفاتنة" وهذا نموذج منها:



أنت كوخٌ معشوشبٌ في رباةٍ 


 مُقمر الصمتِ، سرمدي الخيالِ


نَعِست روحي الكليلة نشوى


 فيه، ترعى فجري هذا الجمال


أنت صمتٌ مخيم ففضاءُ


 فظلام مكوكبٌ فنهارُ



فهمودٌ تدب فيه حياةٌ 


 ويغني في فجرها النوبهارُ



أنتِ كل الحياة، أنت كياني


 أنتِ روحي أبصرتُها في سباتي


أنتِ وحيي مجسدًا، أنت لحني 


 يا سماء على سماء حياتي



والملاحظ أن كثيرًا مما كتب المعاصرون من هذا اللون رديء تغلب عليه اللفظية، وعلة هذه الرداءة أن طائفة من الشعراء تضيق بهم سبل التعبير فيلجئون إلى التكرار، التماسًا لموسيقى يحسبون أنه يضفيها أو تشبهًا بشاعر كبير، أو ملئًا لفراغ. ومن النماذج المبتكرة تكرار كلمة "نسيت" في قصيدة "نهر النسيان" لمحمود حسن إسماعيل، فهذا تكرار يتعلق تعلقًا مباشرًا ببناء القصيدة العام، وهو أحد الأسباب التي تجعلنا نعده تكرارًا ناجحًا غير لفظي، كما نعد القصيدة نفسها واحدة من أجمل ما نظم شعراؤنا المعاصرون. ولعل من المناسب أن أقتطف نموذجًا من القصيدة ليلاحظ القارئ العناية الكبيرة التي صبَّها الشاعر على ما يلي لفظة "نسيت" في كل بيت، وهو سر جمال التكرار ونجاحه

من "نهر النسيان"

ونسيت الأنسام تنقل في المرج صلاة الطيور للغدران

ونسيت النجوم وهي على الأفق نشيد مبعثر الأوزان

ونسيت الربيع وهو نديم الشعر والطير والهوى والأماني

ونسيت الخريف وهو صبا مات فسجته شيبة الأغصان

ونسيت الظلام وهو أسى الأرض وتابوت شجوها الحيران

ونسيت الأكواخ وهي قلوب داميات تلفعت بالدخان

ونسيت القصور وهي قبور ضاحكات البلى من البهتان

هذا نموذج يتوافر فيه الشرطان، فاللفظ المكرر متين الارتباط بالسياق: وما بعده قد لقي عناية الشاعر الكاملة.

يلي تكرار الكلمة تكرار العبارة، وهو أقل في شعرنا المعاصر، وتكثر نماذجه في الشعر الجاهلي ومنه في شعر المهلهل:



ذَهَبَ الصُلحُ أَو تَرُدّوا كُلَيبًا 


 أَو تَحُلّوا عَلى الحُكومَةِ حَلا


ذَهَبَ الصُلحُ أَو تَرُدّوا كُلَيبًا 


 أَو أُذيقَ الغَداةَ شَيبانَ ثُكلا


ذَهَبَ الصُلحُ أَو تَرُدّوا كُلَيبًا 


 أَو تَنالَ العُداةُ هَونًا وَذُلّا



وقد كرر المهلهل عبارة "على أن ليس عدلًا من كليب" في قصيدة أخرى أكثر من عشرين مرة على رواية أبي هلال العسكري. وأشهر من هذا تكراره لعبارة "قربا مربط المشهر مني" ويقصد بالمشهر فرسهوهو يستدعيه بذلك إيذانًا بعزمه عل الحرب، وردًّا منه على قصيدة الحارث بن عباد التي استدعى فيها فرسه "النعامة" مكررًا عبارة:

قربا مربط النعامة مني

ولا يخفى أن للتكرار في هذه المواضع كلها علاقة كبيرة بظروف الشاعر النفسية، وطبيعة حياته البدوية. ولا شك في أنه كان يلاحظ أن التكرار يثير الحماسة في صدور المحيطين به ويستفزهم للقتال. ومن ثم استعمله.

وأحد النماذج المألوفة لهذا التكرار في عصرنا، تكرار بيت كامل من الشعر، في ختام المقطوعة، وقصيدة ميخائيل نعيمة "الطمأنينة" مثال ناجح له:



سقف بيتي حديد 


 ركن بيتي حجر


فاعصفي يا رياح 


 وانتحب يا شجر



واسبحي يا غيوم


 واهطلي بالمطر



واقصفي يا رعود


 لست أخشى خطر



سقف بيتي حديد


 ركن بيتي حجر



من سراجي الضئيل 


 أستمد البصر



كلما الليل جاء 


 والظلام انتشر


وإذا الفجر مات


 والنهار انتحر



فاختفي يا نجوم 


 وانطفئ يا قمر


من سراجي الضئيل 


 أستمد البصر


ولنلاحظ أن هذا اللون من التكرار لا ينجح في القصائد التي تقدم فكرة عامة لا يمكن تقطيعها؛ لأن البيت المكرر يقوم بما يشبه عمل النقطة في ختام عبارة تم معناها، ومن ثم فإنه يوقف التسلسل وقفة قصيرة ويهيئ لمقطع جديد. وقد رأينا أن قصيدة ميخائيل نعيمة تقدم نماذج فرعية لمعنى الطمأنينة العام، وقد وقفت كل مقطوعة نفسها على نموذج فرعي واحد انتهت عنده، وهذا هو سر نجاح التكرار في القصيدة. ويفشل هذا التكرار في القصائد التي تتسلسل معانيها تسلسلًا لا داعي فيه للتقطيع.

ومن نماذجه قصيدة عنوانها "سجين" لبدر شاكر السياب، يبدو التكرار في ختام كل مقطع منها صادمًا يعوق التسلسل، ويوقفه دون داعٍ، وهذان مقطعان منها:

ذراعا أبي تُلقيان الظلال


 على روحي المستهام الغريب


ذراعا أبي والسراج الحزين 


 يطاردني في ارتعاش رتيب



وحفت بي الأوجه الجائعات 


 حيارى فيا للجدار الرهيب



ذراعا أبي تُلقيان الظلال 


 على روحي المستهام الغريب



وطال انتظاري.... كأن الزمان 


 تلاشى فلم يبق إلا انتظار!


وعيناي ملء الشمال البعيد


 فيا ليتني أستطيع الفرار



وأنت التقاء الثرى بالسماء 


على الآل في نائيات القفار



وطال انتظاري كأن الزمان


 تلاشى فلم يبق إلا انتظار


التكرار هنا يبدو تلوينًا مجردًا ليس له داعٍ، وهو يوقف الانسياب الشعوري للقصيدة التي تملك كسائر قصائد هذا الشاعر وحدة محببة يؤسفنا أن تتعثر لاهثة في ختام كل مقطع. قد كان موضع التكرار هنا -رغمتسلسل القصيدة وطبيعتها التي لا تقبل التقطيع- يمكن أن يتحسن لو عني الشاعر بأن يجعل البيت الثالث في المقطوعة يفضي بمعناه إلى البيت الرابع المكرر، كما في مقطوعات ميخائيل نعيمة، فإذ ذاك يمتلك التكرار سببًا واحدًا يبرر وجوده في قصيدة لا تحتاج إليه إطلاقًا.

ومن هذا اللون من التكرار، ما يكرر الشاعر فيه كلمة أو عبارة معينة في ختام مقطوعات القصيدة جميعًا، وهو لون شائع مثاله تكرار إيليا أبي ماضي لعبارة "لست أدري" في قصيدة الطلاسم المشهورة، وتكرار علي محمود طه لعبارة "اسقنا من خمرة الرين اسقنا" في قصيدة "خمرة نهر الرين" وشرط هذا النوع من التكرار أن يوحد القصيدة في اتجاه يقصده الشاعر، وإلا كان زيادة لا غرض لها.

ثم ننتقل إلى تكرار المقطع كاملًا، وهو تكرار يخضع لشروط تكرار البيت عينها، أعني إيقاف المعنى لبدء معنًى جديد. ومن أمثلته قصيدة "الصباح الجديد" لأبي القاسم الشابي وقد كرر المقطع التالي أكثر من مرة.

اسكتي يا رياح 


 واسكني يا شجون



مات عهد النواح 


 وزمان الجنون


وأطل الصباح 


 من وراء القرون



ومع أن هذا التكرار لم يضر بالقصيدة، إلا أنه لم يفدها كثيرًا

وربما كان أجمل لو حذفه الشاعر، فالقصيدة، من دونه، لا تخسر شيئًا.

ويلاحظ أن التكرار المقطعي يحتاج إلى وعي كبير من الشاعر، بطبيعة كونه تكرارًا طويلًا يمتد إلى مقطع كامل. وأضمن سبيل إلى نجاحه أن يعمد الشاعر إدخال تغيير طفيف على المقطع المكرر، والتفسير السايكولوجي لجمال هذا التغيير، أن القارئ وقد مر به هذا المقطع، يتذكره حين يعود إليه مكررًا في مكان آخر من القصيدة، وهو بطبيعة الحال، يتوقع توقعًا غير واعٍ أن يجده كما مر به تمامًا. ولذلك يحس برعشة من السرور حين يلاحظ فجأة أن الطريق قد اختلف، وأن الشاعر يقدم له، في حدود ما سبق أن قرأه، لونًا جديدًا. ولا أجد في ما بين يدي من الدواوين نموذجًا لهذا التكرار باستثناء قصيدتي "الجرح الغاضب" التي نشرت في مجموعتي "شظايا ورماد" فإن المقطع الأخير من هذه القصيدة تكرار لمقطع سابق.



ويهمني أن أشير إلى أن التكرار في قصيدة "الجرح الغاضب" على الرغم من ألوانه المختلفة عن ألوان المقطع الأصلي، لا يدخل على هيكل القصيدة المعنوي تغييرًا، وإنما يؤكده لا أكثر فهو تكرار بياني "كما سنشرح في البحث التالي". والخطوة التالية التي يمكن أن يخطوها الشاعر في هذا التكرار المقطعي، أن يقيم هيكل المعنى في القصيدة على التلوين الذي يدخله. بالصورة التي بينتها على المقطع الأصلي الذي يكرره، والنموذج الذي أحبه وأريد تقديمه للقارئ قصيدة بديعة لأمجد الطرابلسي قرأتها في مجلة "الرسالة" منذ سنين وعنوانها "احترق.. احترق" أنقلها هنا كاملةلا تقف يا قطار … لا تهن يا خفق

نخلات الديار


 من وراء البحار


لمعت في الأفق


ويك لا تحترق


قد بلغنا الفناء


 بعد كد المسير


ليس دون اللقاء 


 بعد هذا المساء

غير بعض العصور


وبحار تمور


سر بنا سر بنا 


 في الدجى يا أمل



الهوى ناينا 


 والمدى غاينا


يا هنا من وصل


بعد فوت الأجل


قف بنا يا قطار


 واسترح يا خفق


بيننا والديار 


 غمرات البحار



وظلام الأفق



احترق.. احترق..



ألا يتعلق التكرار هنا تعلقًا قويًّا ببناء القصيدة العامة بحيث يستحيل حذفه دون أن تنهار القصيدة؟ ذلك أن القصيدة -وهي غامضة، صوفية الإحساس، عني الشاعر فيها برسم الجو، أكثر مما عني بتقديم المعنى مفروزًا، مرتبطًا، متسلسلًا- تبدأ بالأمل في العودة إلى الديار، ذلك الأمل الذي يغذيه لمعان نخيل الديار من وراء البحار، ثم يتذكر الشاعر الزمن والموت وطبيعة الأمل الزئبقية، ويتسع في ذهنه مدلول الديار فيتحول إلى ما هو أعمق من الأرض وأبعد، وإذ ذاك يرسل صرخته الأخيرة

"قف بنا يا قطار". وبالتلوين اللفظي الذي أدخله الشاعر في المقطع المكرر تغير اتجاه المعنى في القصيدة كليًّا، فاستحالت "لا تحترق" التي جاءت في أول القصيدة إلى "احترق، احترق" التي ختمتها. وكانت هذه مقارنة صامتة بين حس الأمل في المقطع الأصلي، وحس اليأس في المقطع المكرر. وقد كان الشاعر فنانًا وهو يختار "احترق، احترق" عنوانًا؛ لأنها، كما رأينا، ملخص الصراع كله، وإليه ترتكز القصيدة.



وتجرني هذه القصيدة التي اختتمها الشاعر بالتكرار إلى الوقوف لحظة عند قضية اختتام القصائد بتكرار مقاطع سابقة منها، وهو أسلوب غير نادر في شعرنا اليوم. في الواقع أن كثيرًا من هذه الخواتيم تجيء غاية في الرداءة، والسبب أن بعض الشعراء الضعفاء يلجئون إلى التكرار تهربًا من اختتام القصيدة اختتامًا طبيعيًّا، ومن طبيعة التكرار أنه يوحي بانتهاء القصيدة وبذلك يستطيع أن يخدع القارئ العادي. على أن العيب الفني لا يفوت على قارئ متذوق يتحسس جمال التكرار ويدرك سر البلاغة فيه. وسأختار لهذا التكرار المضلل نموذجًا لشاعر نؤمن بشاعريته -فلا خير في أمثلة نقتطفها من شعراء لا قيمة لهم- قصيدة "الكوخ" من ديواني "أغاني الكوخ" الصادر سنة 1934 لمحمود حسن إسماعيل، وهي قصيدة طويلة ضغطت فيها القافية الموحدة على الشاعر حتى أبرمته، وجعلته يتهرب من الخاتمة فأجهز على القصيدة بتكرار المطلع الذي كان، لسوء الحظ، مطلعًا رديئًا1

بعثر عليه الدمع ما صفقت


 في قلبك الألحان يا شاعر


واحرق له الأجفان ما مسها


 برح الأسى والحزن يا ساهر


بقي من أنواع التكرار نوع دقيق يكثر استعماله في شعرنا الحديث، وهو تكرار الحرف، وأمثلته كثيرة منها هذان البيتان العذبان من قصيدة مشهورة لأبي القاسم الشابي1:

عذبة أنتِ كالطفولة، كالأحلام، كاللحن، كالصباح الجديد كالسماء الضحوك، كالليلة القمراء، كالورد، كابتسام الوليد.

فالشاعر يكرر الكاف هنا ويؤثرها على واو العطف لأنها تجدد التشبيه وتقويه محتفظة له بيقظة القارئ كاملة، ولا شك في أن المعنى يفقد كثيرًا لو كان الشاعر قال:

"عذبة أنت كالطفولة والأحلام واللحن"..

وهذا نموذج ثانٍ من قصيدة رائعة الجمال لبدر شاكر السياب عنوانها "أهواء":

وهيهات أن الهوى لن يموت


 ولكن بعض الهوى يأفل



كما تأفل الأنجم الخافقات


 كما يغرب الناظر المسبل


كما تستجم البحار الفساح 


مليًّا، كما يرقد الجدول



كنوم اللظى، كانطواء الجناح 


 كما يصمت الناي والشمأل



ويلاحظ أن التكرار هنا لو حذف لفقدت الصور الفرعية كثيرًا من جمالها. غير أن للتكرار، كل تكرار، فائدة إيجابية تذهب إلى أبعد من مجرد التحلية. 






تعليقات