الفرزدق - سيرة الشاعر الفاخر

الفرزدق - سيرة الشاعر الفاخر


الفرزدق:هوهمّام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم.

 وكان جدّ الفرزدق صعصعة بن ناجية عظيم القدر فى الجاهلية، واشترى ثلاثين موؤودة إلى أن جاء الله عزّ وجلّ بالإسلام.

 منهنّ بنت لقيس بن عاصم المنقرىّ. ثم أتى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وأسلم.



الفرزدق-Al-Farazdaq


وأمّ صعصعة قفيرة بنت سكين، من عبد الله بن دارم، وكانت أمّها أمة وهبها كسرى لزرارة، فرهنها زرارة لهند بنت يثربىّ ابن عدس، فوثب أخو زوجها، واسمه سكين بن حارثة بن زيد بن عبد الله بن دارم، على الأمة فأحبلها، فولدت له قفيرة أمّ صعصعة، فكان جرير يعيب الفرزدق بها.

 وكان لصعصعة قيون، منهم جبير ووقبان وديسم، فلذلك جعل جرير مجاشعا قيونا.

وقال جرير ينسب غالب بن صعصعة إلى جبير:


وجدنا جبيرا أبا غالب 


 بعيد القرابة من معبد


يعنى معبد بن زرارة. وكان يعيبهم بالخزيرة، وذلك أنّ ركبا من مجاشع مرّوا فى الجاهلية وهم عجال على شهاب التغلبىّ، فسألهم أن ينزلوا، فقالوا: نحن مستعجلون، فقال: لا تجوزونى حتّى تصيبوا القرى، فحمل إليهم خزيرة، فجعلوا يأكلونها وهم على إبلهم ويعظّمون اللقم، وذلك يسيل على لحاهم! 


وأمّا غالب أبو الفرزدق فكان يكنى أبا الأخطل، وكان سيّد بادية تميم، وكان أعور. وأمّه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس. واستجير بقبره وهو بكاظمة  فى حمالة، فاحتملها عنه الفرزدق  وكان له إخوة، منهم هميم بن غالب ، وسمى الفرزدق باسمه 


وهو القائل:


لعمر أبيك فلا تكذبن


 لقد ذهب الخير إلا قليلا


وقد فتّن الناس فى دينهم 


 وخلّى ابن عفّان شرّا طويلا


سبب تسمبة الفرزدق


وإنما لقب بالفرزدق لغلظه وقصره، شبّه بالفتيتة التى تشربها النساء، وهى الفرزدقة. وكنيته أبو فراس.

وكان للفرزدق أخ يقال له الأخطل أسنّ منه، وابنه محمد بن الأخطل كان توجّه مع الفرزدق إلى الشأم، فمات بها، ولا عقب له. ورثاه الفرزدق.

 وأخته يقال لها جعثن، وكانت امرأة صدق. ونزل الفرزدق فى بنى منقر والحىّ خلوف، فجاءت أفعى إلى جارية من بنى منقر يقال لها ظمياء، فدخلت معها فى شعارها، فصرخت أمّها، وجاء الفرزدق فسكّنها، واحتال للأفعى حتّى انسابت، والتزم الجارية فانتهرته، فقال :


وأهون عيب المنقريّة أنّها 


 شديد ببطن الحنظلىّ لصوقها


فلمّا بلغ منقر قوله أرسلوا رجلا يقال له عمران بن مرّة، وأمروه أن يعرض لجعثن أخت الفرزدق، فلما خرجت وثب فضرب بيده على نحرها، فصاحت، ومضى، فعيّر الفرزدق بذلك ومكث الفرزدق زمانا لا يولد له، فعيّرته امرأته النّوار بذلك فقال:


قالت: أراه واحدا لا أخا له 


 يؤمله فى الوارثين الأباعد


لعلّك يوما أن ترينى كأنّما 


 بنىّ حوالىّ الأسود الحوارد


فإنّ تميما قبل أن يلد الحصى 


 أقام زمانا وهو فى الناس واحد


فولد له بعد ذلك لبطة وسبطة وخبطة وركضة من النّوار، وزمعة وليس لواحد من ولده عقب إلا من النساء.


وكان الفرزدق معنّا مفنّا ، يقول فى كلّ شىء، وسريع الجواب، فمرّ بقوم ولهم جنازة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مات أبو الخنساء صاحب البغال، فقال 


ليبك أبا الخنساء بغل وبغلة 


 ومخلاة سوء قد أضيع شعيرها


ومجرفة مطروحة ومحسّة 


 ومقرعة صفراء بال سيورها



 وكان خلف بن خليفة ظريفا شاعرا راوية، وكان أقطع ، له أصابع من جلود، فمرّ بالفرزدق يوما فقال له: يا أبا فراس من الذى يقول:


هو القين وابن القين لا قين مثله


 لفطح المساحى أو لجدل الأداهم؟ 


قال الفرزدق: يقوله الذى يقول:


هو اللصّ وابن اللّص لا لصّ مثله


 لنقب جدار أو لطرّ الدّراهم 


 وأتى حفصا السّرّاج يشترى منه سرجا، فمرّت به امرأة جميلة وفى يده سرج ينظر إليه، فألقى السرج من يده وقال:


الفرزدق يصف المرأة الجميلة


منع الحياة من الرّجال ونفعها


 حدق تقلّبها النّساء مراض


خرجت إليك ولم تكن خرّاجة


 فأصيب صدع فؤادك المنهاض


وكأنّ أفئدة الرّجال إذا رأوا 


 حدق النّساء لنبلها الأغراض


ذكاء الفرزدق


 ورآه خالد بن صفوان يوما وكان يمازحه، فقال: يا أبا فراس ما أنت بالذى لمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ

 ! قال: ولا أنت يا أبا صفوان بالذى قالت الفتاة فيه لأبيها يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ


 وجاء عنبسة بن معدان إلى باب بلال، فرأى الفرزدق وقد نعس، فحرّكه برجله وقال: بلغت النار يا أبا فراس؟! قال: نعم ورأيت أباك ينتظرك!  ومرّ بيحيى بن الحضين بن المنذر الرقاشىّ، فقال له: يا أبا فراس هل لك فى جدى سمين ونبيذ زبيب جيد؟ فقال: وهل يأبى هذا إلا ابن المراغة! فانطلق به يحيى وبابن عمّ له، فأكلوا، ثم دعا بالشراب، فقال الفرزدق:اسقنى صرفا يا غلام، فقال يحيى: أمّا أنا فلا أشرب صرفا ولا غيره، فقال الفرزدق:


اسقنى خمسا وخمسا 


 وثلاثا واثنتين


من عقار كدم الجو


 ف يحرّ الكليتين


واصرف الكأس عن الم 


 حروم يحيى بن حضين


واسق هذين ثلاثي


 ن يروحا مرحين


 وأصابته الدّبيلة  ، فقدم به البصرة، وأتى بطبيب فسقاه قارا أبيض، فجعل يقول: أتعجّلون لى القار فى الدنيا؟! ومات وقد قارب المائة. وقيل له فى مرضه الذى مات فيه:


اذكر الله، فسكت طويلا ثم قال:


إلى من تفزعون إذا حثوتم


 بأيديكم علىّ من التراب


ومن هذا يقوم لكم مقامى 


 إذا ما الرّيق غصّ بذى الشّراب


فقالت له مولاة له: نفزع إلى الله، فقال: أخرجوا هذه من الوصيّة

وكان قد أوصى لها بمائة درهم.

قال أبو عمرو بن العلاء: كان الفرزدق يشبّه من شعراء الجاهلية بزهير.


قصة الفرزدق مع عبدالله بن الزبير


 وأمّا النّوار امرأة الفرزدق فهى ابنة أعين بن ضبيعة المجاشعى، وكان علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وجّه أباها إلى البصرة أيام الحكمين، فقتله الخوارج غيلة، فخطب النّوار رجل من قريش من أهلها بالشأم ، فبعثت إلى الفرزدق تسأله أن يكون وليّها إذ كان ابن عمّها، كان أقرب من هناك إليها، فقال: إنّ بالشأم من هو أقرب إليك منى، ولا آمن أن يقدم قادم منهم فينكر ذلك علىّ، فأشهدى أنك قد جعلت أمرك إلىّ، ففعلت،


 فخرج بالشهود وقال لهم: قد أشهدتكم أنّها قد جعلت أمرها إلىّ، وإنى أشهدكم أنى قد تزوّجتها على مائة ناقة حمراء سوداء الحدق، فذئرت من ذلك، واستعدت عليه، وخرجت إلى عبد الله بن الزّبير، والحجاز والعراق يومئذ إليه، وخرج الفرزدق، فأمّا النّوار فنزلت على خولة ابنة منظور بن زبّان الفزارىّ امرأة عبد الله ابن الزبير، فرقّقتها وسألتها الشفاعة لها، وأمّا الفرزدق فنزل على حمزة بن عبد الله بن الزبير، ومدحه، فوعده الشفاعة له، فتكلّمت خولة فى النّوار، وتكلّم حمزة فى الفرزدق، فأنجحت خولة وخاب حمزة، وأمر عبد الله بن الزبير أن لا يقربها حتّى يصيرا إلى البصرة، فيحتكما إلى عامله، فخرج الفرزدق فقال:


أمّا بنوه فلم تنجح شفاعتهم 


 وشفّعت بنت منظور بن زبّانا


ليس الشّفيع الذى يأتيك مؤتزرا


 مثل الشّفيع الذى يأتيك عريانا



وماتت النّوار بالبصرة مطلّقة منه، وصلّى عليها الحسن البصرىّ رحمه الله

قال أبو محمد: ولما هجا الفرزدق بنى منقر لسبب ظمياء، وهى عمّة اللّعين (الشاعر) المنقرى  ، فقال:


وأهون عيب المنقريّة أنّها


 شديد ببطن الحنظلى لصوقها


رأت منقرا سودا قصارا وأبصرت


 فتى دارميّا كالهلال يروقها


فما أنا هجت المنقريّة للصّبى


 ولكنّها استعصت عليها عروقها


استعدوا عليه زيادا، فهرب إلى المدينة وعليها سعيد بن العاصى، فأمّنه وأجاره وأظهر زياد أنّه لم يرد به سوءا، وأنّه لو أتاه لحباه وأكرمه، فبلغ ذلك الفرزدق فقال :


دعانى زياد للعطاء ولم أكن 


 لأقربه ما ساق ذو حسب وفرا


وعند زياد لو يريد عطاءهم


 رجال كثير قد يرى بهم فقرا


وإنى لأخشى أن يكون عطاؤه 


 أداهم سودا أو محدرجة سمرا


 وخال الفرزدق هو العلاء بن قرظة الضّبّىّ، وكان شاعرا، وكان الفرزدق يقول: إنما أتانى الشعر من قبل خالى، وخالى الذى يقول:


إذا ما الدّهّر جرّ على أناس


 حوادثه أناخ بآخرينا


فقل للشامتين بنا: أفيقوا 


 سيلقى الشامتون كما لقينا


وله يقول جرير:


كأن الفرزدق إذ يعوذ بخاله 


 مثل الذّليل يعوذ تحت القرمل


والقرمل: شجر ضعيف، تقول العرب: ذليل عاذ بقرملة .


 ولقى الفرزدق أبا هريرة، وقال له: يا فرزدق أراك صغير القدمين، فإن استطعت أن يكون لهما غدا مقام على الحوض فافعل  ، وقال الفرزدق:سمعت أبا هريرة يقول على منبر المدينة: الذبيح إسماعيل.


 وأنشد الفرزدق سليمان بن عبد الملك:


ثلاث واثنتان فهنّ خمس


 وسادسة تميل إلى شمامى


فبتن جنابتىّ مطرّحات


 وبتّ أفضّ أغلاق الختام


كأنّ مفالق الرّمان فيه


 وجمر غضى قعدن عليه حام


فقال له سليمان: أخللت بنفسك، أقررت عليها عندى بالزّنا، وأنا إمام، فلا بدّ لى من إقامة الحدّ عليك! قال: ومن أين أوجبته علىّ؟ قال: لقول الله عزّ وجلّ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ

قال الفرزدق: فإنّ كتاب الله يدروءه عنى، يقول الله تبارك وتعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ.أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فأنا قلت ما لم أفعل.

 وأتى سليمان بأسرى من الروم، وعنده الفرزدق، فقال له: قم فاضرب أعناق هؤلاء، فاستعفاه من ذلك فلم يعفه، ودفع إليه سيفا كليلا فقام الفرزدق فضرب به عنق رجل منهم، فنبا السيف، فضحك سليمان وممن حوله، فقال الفرزدق:


ما يعجب الناس أن أضحكت خيرهم 


 خليفة الله يستسقى به المطر


لم ينب سيفى من رعب ولا دهش


 عن الأسير، ولكن أخّر القدر


ولن يقدّم نفسا قبل ميتتها


 جمع اليدين ولا الصّمصامة الذّكر


وفى ذلك يقول جرير:


بسيف أبى رغوان قين مجاشع


 ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم


ضربت به عند الإمام فأرعشت 


 يداك، وقالوا: محدث غير صارم


فأجابه الفرزدق:


ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم 


 إذا أثقل الأعناق حمل المغارم 


وهل ضربة الرّومىّ جاعلة لكم 


 أبا عن كليب أو أخا مثل دارم


ودخل الفرزدق على يزيد بن المهلّب فى الحبس فقال:


أصبح فى قيدك السّماحة وال


 جود وحمل الدّيات والإفضال


فقال له: أتمدحنى وأنا على هذه الحال؟! قال: أصبتك رخيصا فأسلفتك.

 وممّا سبق إليه فأخذ منه أو سبق إليه فأخذه قوله:


ومنتكث عاللت بالسّوط رأسه


 وقد كفر اللّيل الخروق الخواليا 


يعنى بالمنتكث بعيرا انتكث أى هزل، وقال الآخر فى وصف سوط:


ومنتكث عاللت ملتاثة به


 وقد حدر اللّيل النّسور العواليا 


 وأخذ عليه قوله:


وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع 


 من المال إلا مسحتا أو مجلّف


وقد أكثر النحويّون فى الاحتيال لهذا البيت، ولم يأتوا فيه بشىء يرتضى .

 وقوله:

وعندى حساما سيفه وحمائله

أراد حسام سيفه فثنّى، ومثله لقيس بن الخطيم يصف الدرع:كأنّ قتيريها عيون الجنادب


أراد قتيرها، والقتير: مسامير الدرع، 


ومثله قول جرير:


لمّا تذكّرت بالدّيرين أرّقنى


 صوت الدّجاج وقرع بالنّواقيس


أراد دير الوليد، فثنّى، وهو دير مشهور بالشأم.


 وعابه الأخطل بقوله:


أبنى غدانة إننى حرّرتكم


 ووهبتكم لعطيّة بن جعال


لولا عطيّة لاجتدعت أنوفكم


 من بين ألأم آنف وسبال


وقال: كيف يهبهم له وهو يهجوهم هذا الهجاء؟! وقال عطيّة بن جعال حين سمع هذا: ما أسرع ما رجع أخى فى عطيّته.


ومن جيّد الشعر قوله لجرير:


فإن تك كلبا من كليب فإننى


 من الدارميّين الطّوال الشّقاشق


هم الداخلون البيت لا تدخلونه


 على الملك، والحامون عند الحقائق


ونحن إذا عدّت معدّ قديمها 


 مكان النّواصى من وجوه السّوابق


وقوله يهجوه:


ولو يرمى بلؤم بنى كليب الأبيات .

 ومات الفرزدق قبل جرير ، فلما بلغ جريرا موته قال:


هلك الفرزدق بعدما جدّعته 


 ليت الفرزدق كان عاش قليلا


ثم أطرق طويلا وبكى، فقيل له: يا أبا حزرة ما أبكاك؟ قال: بكيت لنفسى، إنّه والله قلّ ما كان اثنان مثلنا أو مصطحبان أو زوجان إلّا كان أمد ما بينهما قريبا، ثم أنشأ يقول مرثّيا له  :

جرير يرثي الفرزدق


فجعنا بحمّال الدّيات ابن غالب


 وحامى تميم عرضها والبراجم


بكيناك حدثان الفراق، وإنّما


 بكيناك إذ نابت أمور العظائم


فلا حملت بعد ابن ليلى مهيرة


 ولا شدّ أنساع المطىّ الرّواسم 



المصادر 


الشعر والشعراء


ابن قتيبة






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-