الشعراء الصعاليك العرب-عوامل وأسباب التصعلك
تعريف الصعاليك لغةً
كلمة "صعلك" تدور في دائرتين الدائرة اللغوية والدائرة الاجتماعية، وتبدأ الدائرتان من نقطة واحدة هي الفقر،
فأما الدائرة اللغوية فتنتهي حيث بدأت عند الفقر، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ثم يظل في نطاقها فقيرا؛ لأنه لا يستطيع أن يغير الوضع الاجتماعي الذي فرض عليه لضعف في نفسه، أو لضعف في جسده، ثم يموت فقيرا،
تعريف الصعاليك احتماعياً
وأما الدائرة الاجتماعية فتبعد عن نقطة البدء محاولة ألا تنتهي عندها، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ثم يحاول أن يتغلب على هذا الفقر ولكن بطريقة خاصة هي تلك التي جعلنا شعارها "الغزو والإغارة للسلب والنهب"، تدفعه إلى ذلك قوة في نفسه وقوة في جسده، أي أن المادة في هذه الدائرة الاجتماعية قد اكتسبت صفات اجتماعية جديدة.
بعد ذلك نلتمس السر في نشأة هذه الظاهرة، فنظرنا في المجتمع الجاهلي من ناحية بيئته الجغرافية، ورأينا أن الظاهرة الجغرافية التي تسيطر على هذا المجتمع هي ما اصطلحنا على تسميتها "بظاهرة التضاد الجغرافي"،
ورأينا أن هذه الظاهرة كانت العامل الأول في نشأة حركة الصعاليك؛ لأنها كانت السبب في وجود الفقر وفي إحساس الفقراء به. ورأينا أن هذه الظاهرة تدخلت مرة أخرى في توجيه حركات الصعاليك التي كانت تخرج دائما من المناطق الجدبة إلى المناطق الخصبة،
ورأينا أن كل مناطق الخصب في الجزيرة العربية قد تعرضت لغزوات الصعاليك، ثم رأينا أنه من الممكن أن نحدد مناطق حركات الصعاليك، فرأينا أن عروة وصعاليكه قد توزع نشاطهم بين منطقتين أساسيتين: منطقة نجد، ومنطقة يثرب وما يجاورها شمالي جزيرة العرب،
وإن لم يمنع هذا من أن يغير أحيانا على غير مناطق اختصاصه، ورأينا أن منطقة جبال السراة فيما بين مكة والطائف وأول الطريق الصاعد إلى اليمن هي المنطقة التي شهدت أكبر عدد من صعاليك العرب،
مشاهير الصعاليك
وأن أشهر الصعاليك الذين انتشروا في هذه المنطقة صعاليك فهم وهذيل ومن انضم إليهم من خلعاء القبائل وشذاذها،منهم الشنفري ورأينا أن منطقة اليمن عرفت أجزاؤها القريبة من الحجاز صعاليك من فهم ومن الأزد،
أجزاؤها البعيدة فقد تخصص في الإغارة عليها السليك، وإن يكن تأبط شرا يتعدى أحيانا على منطقة اختصاص السليك. ولفت نظرنا في صعاليك هاتين المنطقتين أن أكثرهم -إن لم يكونوا جميعا- من العدائين،
وقد رددنا هذا إلى ثلاثة عوامل، طبيعة المنطقة الجبلية، وبعد الأهداف، وقلة الخيل. ثم وقفنا عند هذه الظاهرة، ظاهرة شدة العدو، وقلنا إنها ليست بالظاهرة المستحيلة، وإنما هي صورة من صور التكيف العضوي بين الإنسان وبيئته.
بالنطر إلى المجتمع الجاهلي نلتمس فيه تفسيرا لظاهرة التصعلك، فرأينا أنه مجتمع قبلي، آمنت كل قبيلة فيه بوحدتها الاجتماعية وبكرم جنسها،
ورأينا أن إيمان القبيلة بوحدتها أوجد طائفة الخلعاء والشذاذ في هذا المجتمع، وأن إيمانها بجنسها أوجد طائف الهجناء والأغربة،
وأن المتمردين من هاتين الطائفتين من شتى القبائل قد اجتمعوا في عصابات من صعاليك العرب، كافرين بالعصبية القبلية، مؤمنين بعصبية مذهبية، معتمدين على قوتهم في سبيل العيش، شأنهم في ذلك شأن المجتمع الذي يعيشون فيه، غاية ما في الأمر أن عملهم فردى يجري بدون رضا القبيلة، وعمل القبائل جماعي معترف به.
وبالنطرمن الناحية الاقتصادية في هذا المجتمع فرأينا أن الجزيرة العربية كانت منذ أقدم العصور ممرا تجاريا نشطا لطرق القوافل، وأنه على طول هذه الطرق قامت مجموعة من الأسواق.
ورأينا أن مراكز نشاط الصعاليك كانت عادة على طول هذه الطرق، وبالقرب من هذه الأسواق. ورأينا أن الصعاليك قد استغلوا هذه الأسواق استغلالا آخر فكانت لهم فرصة ينتقون فيها ضحاياهم.
وقد عللنا كثرة الصعاليك في منطقة السراة حول مكة بوقوع هذه المنطقة على الطريق التجاري، وبوجود ثلاث أسواق مشهورة فيها ورأينا أن هذه الأسواق قد شهدت السطور الأولى من قصة طائفتين من طوائف الصعاليك هما طائفة الأغربة وطائفة الخلعاء عروة بن الورد،
ففي هذه الأسواق -أو في بعضها على الأقل- كانت تجري تجارة الرقيق التي كانت سببا في نشأة طبقة الأغربة الشنفري منهم، وفيها -أو في الأسواق الأساسية منها- كان الإعلان الرسمي الذي تذيعه القبائل عن خلعها بعض أفرادها الخارجين عليها.
ورأينا أن المدن العربية قد عرفت لونا من النشاط التجاري الذي ترتب عليه تضم الثروة وتركزها في أيدي نفر قليل من أهلها، الأمر الذي أحدث لونا من الاختلال الاقتصادي، نشأت عنه كثرة عدد الصعاليك الذين كانوا في حالة سيئة حملت أكثرهم على الهرب إلى الصحراء واللحاق بعصابات الصعاليك المنتشرة بها.
فإذا مضينا إلى داخل البادية العربية وجدنا ثمة صراعا بين طبقة أصحاب الإبل وطبقة الصعاليك، وقد رددنا هذا إلى التفاعل بين ظاهرتين متناقضتين: ظاهرة البعد الاقتصادي، وظاهرة القرب النفسي، ورأينا أن مادة هذا الصراع التي دار حولها كانت عادة الإبل؛ لأنها الثروة الأساسية في المجتمع البدوي، وإن لم يمنع هذا من أن تمتد أيدي الصعاليك إلى أية غنيمة تعرض لهم
شعر الصعاليك:
أن شعر الصعاليك لم يصل إلينا منه مجموعا سوى ديوانين هما ديوان عروة وديوان الشنفرى، ورأينا أن هذا الشعر قد توزع بين مصادر الثقافة العربية المختلفة، وأن من يريد أن يجمع "ديوان الصعاليك" عليه أن ينقب بين كل هذه المصادر
وقد لاحظنا على المادة التي جمعناها والتي تكون ديوان الصعاليك ثلاثة أشياء: قلتها، وكثرة الاضطراب في رواية نصوصها، ثم الشك الذي يحيط ببعض نصوصها. ورأينا أن مجموعة شعر الصعاليك التي دار حولها الشك نوعان: فمجموعة كان الشك فيها "داخليا"، والخطب في هذه المجموعة هين، ومجموعة كان الشك فيها "خارجيا"، وأشهر شعر هذه المجموعة لاميتان تنسبان لتأبط شرا والشنفرى ويتهم خلف الأحمر بصنعهما، وقد وقفنا عند هاتين اللاميتين طويلا، وانتهينا إلى ترجيح نسبتهما إلى خلف.
ثم مضينا إلى مجموعة شعر الصعاليك فدرسنا موضوعاتها، ورددنا هذه الموضوعات إلى مجموعتين أساسيتين؛ مجموعة الشعر داخل دائرة الصعلكة، ومجموعة الشعر خارج دائرة الصعلكة.
ورأينا أن الشعراء الصعاليك قد تعرضوا في المجموعة الأولى لكل ما كان يدور في حياتهم الفردية أو حياتهم الجماعية، فتحدثوا عن مغامراتهم، وعن تربصهم فوق المراقب في انتظار ضحاياهم، وعن توعدهم أعداءهم وتهديدهم لهم، وعن أسلحتهم سواء منها أسلحة الهجوم أو أسلحة الدفاع،
وتحدثوا عن رفاقهم الذين رافقوهم في هذه المغامرات، وتحدثوا عن فرارهم وهربهم، وعن سرعة عدوهم، وعن غزواتهم على الخيل، وعللوا لمغامراتهم، وفسروا الدوافع التي دفعتهم إليها، وذكروا العقد النفسية التي كانت سببا لها، كما تحدثوا عن آرائهم الاجتماعية والاقتصادية، وعن تشردهم في أرجاء الصحراء المقفرة، واتصالهم بحيوان الصحراء ووحشها وأشباحها.
أما المجموعة الأخرى، مجموعة الشعر خارج دائرة الصعلكة، فإننا تلمسنا أولا آثار القبلية فيها، ولاحظنا أن هذه المجموعة من الشعر القبلي تقابلنا في شعر الصعاليك قليلة. كما أن عدد شعرائها قليل أيضا.
بعد ذلك إلى المخضرمين من الشعراء الصعاليك نتلمس الآثارالإسلامية في شعرهم بعد الإسلام ومن الطبيعي أن موضوعات هذه المجموعة الإسلامية قد خلت من تلك الموضوعات التي عرفناها في شعرهم داخل دائرة الصعلكة، ومع ذلك فقد رأينا رواسب ضئيلة من الصعلكة تتسرب من حين إلى حين في أثناء هذا الشعر.
وإذ ندرس الظواهر الفنية في شعر الصعاليك، فلاحظنا أول ما لاحظنا أنه شعر مقطوعات، وقد ملنا في تعليلنا لهذا إلى طبيعة حياة الصعاليك نفسها، تلك الحياة القلقة التي لا تكاد تفرغ للفن من حيث هو فن يفرغ صاحبه لتطويله وتجويده.
ثم لاحظنا ظاهرة أخرى وهي ظاهرة الوحدة الموضوعية، ورأينا أن أكثر مقطوعات شعر الصعاليك وقصائده تقبل العناوين، بل إن مطولاته -برغم تعدد أغراضها- نستطيع أن نردها إلى أصل موضوعي واحد، فليس التعدد هنا تعددا في الموضوع، وإنما هو تفرع في أغراض الموضوع الواحد،
ورأينا مع ذلك أن هناك طائفة قليلة جدا من قصائد شعر الصعاليك لا تخضع لهذه الظاهرة، وقد رددنا هذا إلى ما سميناه "ظاهرة تقليد الشعراء الصعاليك للشعر القبلي في صورته الشكلية"، وقلنا إن هذه الظاهرة ليست من الخطر في شيء على الفكرة التي نقررها. ثم لاحظنا أن شعر الصعاليك قد تخلص من المقدمات الطللية التي عرفها الشعر القبلي، ما عدا تلك المجموعة التقليدية، ورأينا أن الشعراء الصعاليك استعاضوا عنها بمذهب آخر أطلقنا عليه "مقدمات الفروسية في شعر الصعاليك".
ثم لاحظنا بعد ذلك أن شعر الصعاليك قد تخلص أيضا من التصريع في مطالع نماذجه الفنية، ورأينا أن هذه الظاهرة توشك أن تكون مطردة في كل شعر الصعاليك. ثم لاحظنا بعد ذلك أن مجموعة شعر الصعاليك التي اصطلحنا على تسميتها "الشعر داخل دائرة الصعلكة" قد تحلل أصحابها من الشخصية القبلية، وحلت محلها ظاهرة أخرى أطلقنا عليها "ظاهرة الوضوح الفني لشخصة الشاعر الصعلوك"،
وأن هذه الظاهرة كانت ظاهرة شاذة في المجتمع الأدبي الجاهلي فأطلقنا على الشعراء الصعاليك "أصحاب المذهب الشاذ في الشعر الجاهلي". ثم درسناظاهرة القصصية في شعر الصعاليك، ورأينا أن الشعراء الصعاليك قد استغلوا في شعرهم كل ما يدور في حياتهم الحافلة بالحوادث المثيرة استغلالا قصصيا رائعا، وانتهينا إلى أن شعر امرئ القيس ليس نقطة البدء في تاريخ القصة الشعرية، وإنما تسبق هذا مرحلة أولى هي مرحلة الشعراء الصعاليك الذين نميل إلى أن امرأ القيس قد تأثر بهم في فنه،
ومن هنا أطلقنا على الشعراء الصعاليك "رواد القصة الشعرية في الأدب العربي".ثم وقفنا طويلا عند الواقعية في شعر الصعاليك، وبينا مظاهرها المتعددة. ثم لاحظنا أن شعر الصعاليك يمتاز بالسرعة الفنية، وأن ميزته الكبرى "خفوت الصنعة الفنية"، ورأينا أن التشبيه أقوى الألوان الفنية التي اعتمد عليها الشعراء الصعاليك، ووقفنا طويلا عند هذه الظاهرة، فدرسنا المنابع المختلفة التي تكون "صندوق الأصباغ عند الشعراء الصعاليك"، وكيف استغلوها،
ورأينا إلى جانب التشبيه ألوانا فنية أخرى من ألوان الصنعة الفنية المتمهلة، فدرسنا النماذج الفنية التي رأيناها فيها، ثم وقفنا بعد هذا عند الخصائص اللغوية في شعر الصعاليك، ورأينا أولا أن لغتهم هي اللغة الأدبية التي عرفها العصر الجاهلي، غير أننا لاحظنا أنها أقرب إلى فطرة اللغة العربية وأصدق تمثيلا لها، ولاحظنا كثرة الغريب في شعرهم.
ثم وقفنا أخيرا عند الظواهر العروضية في شعرهم، ورأينا أن أوزان شعرهم وزحافاته هي الأوزان والزحافات التي عرفها سائر الشعر الجاهلي، غير أننا لاحظنا انتشار الرجز في شعرهم الذي قالوه قبيل مصارعهم.
الكتاب: الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي
المؤلف: يوسف خليف