اللفظ والمعنى في الشعر العربي
اللفظ والمعني
اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم: يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح.
وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح، ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح.
فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين، إلا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى؛ لأنا لا نجد روحاً في غير جسم البتة.
راي الناس حول اللفظ والمعني
ثم للناس فيما بعد آراء ومذاهب: منهم من يؤثر اللفظ على المعنى فيجعله غايته ووكده، وهم فرق: قوم يذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته، على مذهب العرب من غير تصنع، كقول بشار:
عنتريات فارغة
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة
ذرى منبر صلى علينا وسلما
وهذا النوع أدل على القوة، وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار، وكذلك ما مدح به الملوك يجب أن يكون من هذا النحت.
كلام كبير ومعني تافه
وفرقة أصحاب جلبة وقعقعة بلا طائل معنى إلا القليل النادر: كأبي القاسم بن هانئ ومن جرى مجراه؛ فإنه يقول أول مذهبته
أصاخت فقالت: وقع أجرد شيظم
وشامت فقالت: لمع أبيض مخذم
وما ذعرت إلا لجرس حليها
ولا رمقت إلا برى في مخدم
وليس تحت هذا كله إلا الفساد، وخلاف المراد، ما الذي يفيدنا أن تكون هذه المنسوب بها لبست حليها فتوهمته بعد الإصاخة والرمق وقع فرس أو لمع سيف؟ غير أنها مغزوة في دارها، أو جاهلة بما حملته من زينتها، ولم يخف عنا مراده أنها كانت تترقبه!! فما هذا كله؟
وكانت عند أبي القاسم مع طبعه صنعة، فإذا أخذ في الحلاوة والرقة، وعمل بطبعه وعلى سجيته؛ أشبه الناس، ودخل في جملة الفضلاء؛ وإذا تكلف الفخامة، وسلك طريق الصنعة أضر بنفسه، وأتعب سامع شعره. ويقع له من الكلام المصنوع والمطبوع في الأحايين أشياء جيدة، كقوله في المطبوع يصف شجعاناً:
لا يأكل السرحان شلو عقيرهم
مما عليه من القنا المتكسر
العقير ههنا منهم، أي: لم يمت لشجاعته حتى تحطم عليه من الرماح ما لا يصل معه الذئب إليه كثرة، ولو كان العقير هو الذي عقروه هم لكان البيت هجواً؛ لأنه كان يصفهم بالضعف والتكاثر على واحد. وقوله في المصنوع:
وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً
بالنضر من ورق الحديد الأخضر
فهذا كله جيد وبديع، وقد زاد فيه على قول البحتري
حملت حمائله القديمة بقلةً
من عهد عاد غضة لم تذبل
ويروى:من عهد تبع
رقة شعر أبي العتاهية
ومنهم من ذهب إلى سهولة اللفظ فعني بها، واغتفر له فيها الركاكة واللين المفرط: كأبي العتاهية، وعباس بن الأحنف، ومن تابعهما، وهم يرون الغاية قول أبي العتاهية:
يا إخوتي إن الهوى قاتلي
فيسروا الأكفان من عاجل
ولا تلوموا في اتباع الهوى
فإنني في شغل شاغل
عيني على عتبة منهلة
بدمعها المنسكب السائل
يا من رأى قبلي قتيلاً بكى
من شدة الوجد على القاتل
بسطت كفي نحوكم سائلاً
ماذا تردون على السائل؟
إن لم تنيلوه فقولوا له
قولاً جميلاً بدل النائل
أو كنتم العام على عسرة
منه فمنوه إلى قابل
وقد ذكر أن أبا العتاهية وأبا نواس والحسين بن الضحاك الخليع اجتمعوا يوماً، فقال أبو نواس: لينشد كل واحد قصيدة لنفسه في مراده من غير مدح ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية هذه القصيدة، فسلما له وامتنعا من الإنشاد بعده، وقالا له: أما مع سهولة هذه الألفاظ، وملاحة هذا القصد، وحسن هذه الإشارات؛ فلا ننشد شيئاً، وذلك في بابه من الغزل جيد أيضاً لا يفضله غيره.
ومنهم من يؤثر المعنى على اللفظ فيطلب صحته، ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وخشونته: كابن الرومي، وأبي الطيب، ومن شاكلهما: هؤلاء المطبوعون، فأما المتصنعون فسيرد عليك ذكرهم إن شاء الله تعالى
وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى، سمعت بعض الحذاق يقول: قال العلماء: اللفظ أغلى من المعنى ثمناً، وأعظم قيمة، وأعز مطلباً؛ فإن المعاني موجودة في طباع الناس، يستوي الجاهل فيها والحاذق.
ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحسن السبك، وصحة التأليف، ألا ترى أن رجلاً أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر، وفي الإقدام بالأسد، وفي المضاء بالسيف، وفي العزم بالسيل، وفي الحسن بالشمس فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة لم يكن للمعنى قدر.
وبعضهم وأظنه ابن وكيع مثل المعنى بالصورة، واللفظ بالكسوة؛ فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها ويليق بها من اللباس فقد بخست حقها، وتضاءلت في عين مبصرها.
وقال عبد الكريم وكان يؤثر اللفظ على المعنى كثيراً في شعره وتآليفه: الكلام الجزل أغنى عن المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن الكلام الجزل، وإنما حكاه ونقله نقلاً عمن روى عنه النحاس.
ومن كلام عبد الكريم: قال بعض الحذاق: المعنى مثال، واللفظ حذو، والحذو يتبع المثال؛ فيتغير بتغيره، ويثبت بثباته.
ومنه قول العباس بن حسن العلوي في صفة بليغ: معانيه قوالب لألفاظه، هكذا حكى عبد الكريم، وهو الذي يقتضيه شرط كلامه، ثم خالف في موضع آخر فقال: ألفاظه قوالب لمعانيه، وقوافيه معدة لمبانيه، والسجع يشهد بهذه الرواية الأخرى، وهي أعرف.
والقالب يكون وعاء كالذي تفرغ فيه الأواني، ويعمل به اللبن والآجر
وقد يكون قدراً للوعاء كالذي يقام به اللوالك، وتصلح عليه الأخفاف، ويكون مثالاً كالذي تحذى عليه النعال، وتفصل عليه القلانس، فلهذا احتمل القالب أن يكون لفظاً مرة ومعنى مرة.
وللشعراء ألفاظ معروفة، وأمثلة مألوفة، لا ينبغي للشاعر أن يعدوها، ولا أن يستعمل غيرها، كما أن الكتاب اصطلحوا على ألفاظ بأعيانها سموها الكتابية لا يتجاوزونها إلى سواها، إلا أن يريد شاعر أن يتظرف باستعمال لفظ أعجمي فيستعمله في الندرة، وعلى سبيل الخطرة، كما فعل الأعشى قديماً، وأبو نواس حديثاً، فلا بأس بذلك، والفلسفة وجر الأخبار باب آخر غير الشعر؛ فإن وقع فيه شيء منهما فبقدر، ولا يجب أن يجعلا نصب العين فيكونا متكئاً واستراحة، وإنما الشعر ما أطرب، وهز النفوس، وحرك الطباع، فهذا هو باب الشعر الذي وضع له، وبنى عليه، لا ما سواه.
ومن ملح الكلام على اللفظ والمعنى ما حكاه أبو منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي، قال: البليغ من يحوك الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدود المعاني.
وقال غيره: الألفاظ في الأسماع كالصور في الأبصار.
وقال أبو عبادة البحتري:
وكأنها والسمع معقود بها
وجه الحبيب بدا لعين محبه
المصادر
الكتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه
المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (ت ٤٦٣ هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار الجيل