القصيدة العربية العمودية ومحاولات التجديد

 القصيدة العربية العمودية ومحاولات التجديد


القصيدة العمودية هي الأساس

كل تراثنا الشعري يتمثل في القصيدة العربية العموديةالتي ورثناها عن امرئ القيس، وحسان، وجرير، والبحتري، والمتنبي، والبارودي، وشوقي .

إن الشعر الحر لا يتقيد الشاعر فيه بنظام التفاعيل العروضية؛ إذ يتنوع فيه النغم وتتجدد التفعيلات. ولا يقيد البيت بنظام الشطرين المعروف في البيت الشعري



و الشعراء العرب الذين أغنوا الشعر العربي، ولقّحوه بالأخيلة الطريفة، والمعاني الجديدة، والأغراض المنوعة.
والذين أضافو إليه الخيالات المجنحة والأساليب العربية الأصيلة، والموسيقى المأثورة ذات التفاعيل الارتكازية العذبة التي أُثِرَت في الإمام العربي الجليل، الخليل بن أحمد الراهيدي ، وهو الذي وضع علم العروض لشرح موسيقي الشعر العربي وقوالبه التي نسج عليها الشاعر العربي أبدع القصائد.

و نقادنا الخالدين الذين أضافوا إلى أوزانه أوزانًا أخرى شبيهة بما كشف عنه الخليل من بحور.

إن كل هذا التراث الشعري الأصيل جزء من كيان القصيدة العربية، التي لا تسمى قصيدة شعرية؛ حتى تكون أبياتها من بحر شعري واحد، وحتى تلتزم فيها قافية واحدة.

الرغبة في التجديد

وإن كان شعراؤنا المعاصرون بتأثير الرغبة في التجديد، وتسهيلًا على أنفسهم من قيود الفن والتزاماته؛ أجازوا لأنفسهم أن تشتمل القصيدة على عدة أوزان؛ إذا تعددت مواقفها وأفكارها، ونظموا من ذلك بعض قصائد، من أشهرها قصيدة: الشاعر والسلطان الجائر، لإيليا أبي ماضي.

وأجازوا كذلك تعدد قوافي القصيدة الواحدة مجاراةً لفن الموشحات الأندلسية، وتحرروا من سلطان القافية، وجعل الكثير منهم لكل مقطع في القصيدة قافية، إذا كان كل مقطع يمثل تيارًا فكريًّا متميزًا في القصيدة.
ومع ذلك بقى للقصيدة العمودية سلطانها العظيم؛ لموسيقاها المؤثرة، ونغمها الموقَّع، وجمالها الفني الأخّاذ. والفن هو الفن لا بد فيه من القيود؛ والمثل الفرنسي السائد يقول: لا يحيا الفن بغير القيود، فمن خلال القيود الفنية تظهر عبقرية الشاعر وموهبته الأصلية، وعمق تكوينه الفني المتميز.

أشكال القصيدة العربية

ومع ذلك ففي تراثنا في الشعر: نظام الأرجوزة والموشحة، وهي عكس البحور المعروفة.

 والأوزان التي أحدثها المولّدون، وفيه كذلك الكثير مما أضيف إلى التراث في مختلف العصور، وبخاصة في عصرنا الحديث من تنويع القافية، وتنويع للوزن في القصيدة الواحدة، مع بقاء الروح الشعري الأصيل للقصيدة، وهيكلها العربي العمودي ذي التأثير الموسيقي الرفيع.

المدارس الحديدة في الشعر

 وبدأت مدارسنا الجديدة تدعو إلى التجديد في القصيدة الشعرية، فدعا مطران ومدرسة أبولو إلى الشعر المرسل والشعر الحر؛ لتصبح القصيدة العربية أكثر مرونة وطواعية في يدي الشاعر، وليمكن استخدامها في الشعر القصصي والمسرحي والملحمي الطويل النفس، ولتكون أكثر تعبيرًا عن ذاتية الشاعر ومشاعره العميقة.

حجج كثيرة برَّرُوا بها هذا التجديد، وإن كان شوقي قد طوع القصيدة العمودية فجعلها صالحة للشعر القصصي والمسرحي، وكذلك فعل أبو ماضي وعزيز أباظة وغيرهما؛ والقافية لم تحل بين الشعر العربي القديم والحديث وبين ظهور الملاحم فيه.

 ومن مثل ذلك قصيدة ابن المعتز المتوفى عام "296هـ"، أو ملحمته في ابن عمه الخليفة المعتضد بالله العباسي: "279-289هـ"، أو وقصيدة ابن عبد ربه الأندلسي: "ت 328هـ"، وملحمة حافظ إبراهيم العمرية، وملحمة أحمد محرم المشهورة: الإلياذة الإسلامية، وغيرها .

 فالشاعر الموهوب لا تعوقه أبدًا قيود الوزن والقافية -كما يقول الدكتور أبو شادي في مقدمة ديوانه: "الينبوع".

ولكن الداعين باسم التجديد، تحدثوا عن هذا التجديد، وإن لم يحددوه، ومن بينهم بعض الكلاسيكيين: كالزهاوي والرصافي، وكثير من الرومانسيين.

كمطران وشكري والمازني وغيرهم، ودعا أحمد أمين إلى التجديد في عنصر الوزن والمعنى.

و‌‌رأى الزهاوي: أن القافية في القصيدة تمثل حركة النادب في نهاية كل مقطع من مقاطيع حزنه، ورأى الدكتور زكي المحاسني في كتابه: نظرات في أدبنا المعاصر، أن وحدة القافية العربية تشبه شكل البيداء العربية نفسها، التي تمتد ساحة منها وراء ساحة في تماثل كامل يشبهه سرد القصيدة العربية الجاهلية.

 وهناك شاعر من رواد النهضة الشعرية في فرنسا هو: لويس أرجوان، نظم بعض شعره على نهج قريب من النهج الشعري العربي، وعُدّ ذلك كشفًا جديدًا، فقسم بيته إلى مصراعين، وقَفَّاهما تقفيةً عربيةً.

 بدأت الدعوة إلى الشعر الحر تظهر بين بعض النقاد المعاصرين؛ ومن بينهم مطران وأبو شادي، وهذه الدعوة تأثرت في أكثر الأمر بمذهب الشاعر الأمريكي: والت هوتمان، الذي هجر الأوزان في معظم شعره، كذلك لم يهتم بالقافية، ووجه جل اهتمامه إلى الإيقاع للشعر.

 وكان بعض الشعراء في أوربا قد شكوا في ضرورة الوزن للشعر، وإن لم يلق رأيهم ذلك أنصارًا كثيرين إلا في الولايات المتحدة وفي بلجيكا، أما في إنجلترا وفرنسا فلم يصادفوا نجاحًا يُذكر.

والخروج على الوزن الشعري مع ملاحظة تنغيمات موسيقية خاصة يسمى شعرًا حرًّا عند أبي شادي والسحرتي الذي يقول: "ليس الشعر الحر ضربًا من الفوضى، بل إن له صناعة فنية تخلق إيقاعات موسيقية، وإن خالفت الإيقاعات التقليدية الموروثة.

الشعر مع نازك الملائكة

 ثم صار الشعر الحر في رأي نازك الملائكة في كتابها: قضايا الشعر المعاصر، لا يطلق إلا على تنويع التفعيلات في أشطر القصيدة، ولباكثير ومحمد فريد أبي حديد وسهير القلماوي وغيرهم تجارب كثيرة تمثل أوّلية الشعر الحرّ.

وكان بعض الذين ينظمون منه يقيّدون أنفسم بالشكل الهرمي، فيبدءون البيت الأول بتفعيلة، والثاني بتفعيلتين، والثالث بثلاث، والرابع بأربع، والخامس بخمس تفاعيل، ثم يعودون في البيت بعده إلى أربع تفاعيل فثلاث فاثنتين فواحدة.

ومن الشعراء الذين ينظموا الشعر الحر من يتأثرون بالطريقة القديمة فيلتزمون في أحيان كثيرة القافية كنزار والفيتوري، ومنهم من يتركها؛ كنازك، وبدر شاكر السيَّاب، والبياتي في أغلب شعرهم.

رأي الدكتور طه حسين في الشعر الحر

وللدكتور طه حسين رأي في الشعر الجديد، عبّر عنه في أحاديث مختلفة له، نشرت في أمهات المجلات الأدبية.

‌‌رأى طه حسين: أن النزعة إلى التجديد في الأوزان والقوافي دعوة غير منكرة، وغير جديدة؛ فقد سبق إلى التجديد شعراء من العرب ومن غير العرب.

 وإنما الجدير بالبحث في الشعر الجديد هو البحث عن توافر الأسس التي يجب أن تُراعى في الفن الشعري، والخصائص التي ينبغي أن تتحقق فيه، ولا يمكن أن نعد هذا الجديد شعرًا إلا إذا قام على تلك الأسس، وتوافرت فيه تلك الخصائص.

 فقد نشر في مجلة الأديب البيروتية عدد شهر مايو 1960 مقالًا عن الشعر الجديد أكد فيه ذلك، وجاء في خاتمة هذا المقال: فليتوكل شبابنا من الشعراء على الله ولينشئوا لنا شعرًا حرًّا أو مقيدًا، جديدًا أو حديثًا، ولكن ليكن هذا الشعر شائقًا رائعًا.

ونُشر للدكتور طه من قبل رأي في مجلة الآداب البيروتية عدد فبراير عام 1975 حول الشعر الحرّ، قال فيه: إني لا أرى بهذا التجديد في أوزان الشعر وقوافيه بأسًا، ولا على الشباب المجدّدين أن ينحرفوا عن عمود الشعر فليس عمود الشعر وحيًا قد نزل من السماء، وقديمًا خالف أبو تمام عمود الشعر، وضاق به المحافظون أشدّ الضيق، وهو زعيم الشعر العربي كله غير منازع، ولست أرفض الشعر؛ لأنه انحرف عن عمود الشعر القديم، أوخالف الأوزان التي التي أحصاها الخليل؛ وإنما أرفضه حين يقصر في أمرين:

 أولهما: الصدق والقوة وجمال الصور وطرافتها.
وثانيهما: أن يكون عربيًّا لا يدركه فساد اللغة والإسفاف في اللفظ، وقديمًا قال أرسطو: "يجب قبل كل شيء أن تتكلم اليونانية، فلنقل: يجب قبل كل شيء أن نتكلم العربية".

النقاد المعاصرين والشعر الحر

 ومن النقاد المعاصرين كثيرون رفضوا الشعر الحر؛ وللعقاد رأي في الشعر الحر، فحين رأى التجارب الجديدة من الشعر الحرّ لزميليه شكري والمازني؛ وهي أولى التجارب من الشعر الجديد، قال: "لا مكان للريب في أن القيود الصناعية ستجري وستُجرى عليها أحكام التغيير والتنقيح؛ فإن أوزاننا وقوافينا أضيق من أن تتفسح لأغراض شاعر تفتحت مغالق نفسه، وقرأ الشعر الغربي، فرأى كيف ترحب أوزانهم بالأقاصيص المطولة والأناشيد المختلفة، وكيف تلين في أيديهم القوالب الشعرية فيودعونها ما لا قدرة لشاعر عربي على وضعه في غير النثر .

 ورحّب العقاد بالشعر المرسل والشعر المتعدد القوافي عند شكري والمازني .

العقاد والشعر الحر

ولكن العقاد عدل عن هذا الرأي فيما بعد، وذكر أنه هو وصديقه المازني كانا يشايعان زميليهما شكري بالرأي في إهمال القافية دون استطابة إهمال القافية بالأذن، وأنه هو نظم القصائد الكثار من شتى القوافي، ولكنه طواها كلها؛ لأنه لم يستسغها.

 وأشار إلى أنه يوم كتب مقدمة الجزء الأول من ديوان المازني ورحب فيها بهذه النزعات التجديدية ومنها الشعر المرسل وذلك عام 1914، كان يظنّ أن الأذن ستألفها، ولكنه إلى اليوم لا يزال ينقبض لاختلاف القوافي بين البيت والبيت عن الاسترسال في السماع، وَذَكَر أن سليقة الشعر العربي تنفير من إلغاء القافية كل النفور.

ماهو الشعر الحر؟

 إن الشعر الحر لا يتقيد الشاعر فيه بنظام التفاعيل العروضية؛ إذ يتنوع فيه النغم وتتجدد التفعيلات. ولا يقيد البيت بنظام الشطرين المعروف في البيت الشعري، ونظم منه شعراء من مدرسة أبولو، وكثير من الشعراء الواقعيين والرمزيين في مصر وسوريا ولبنان والعراق، والتفعيلة العروضية هي الإناء الموسيقي للشعر الجديد .

 ومن أشهر دعاته: نازك الملائكة ومصطفى السحرتي ومحمد مندور.

والشعر الحر -ولا شك- تغيير كامل لنظام القصيدة الشعرية العمودية. وفيه محاولة لسَدْلِ الستار على تراثنا الشعري المأثور.

إن كنّا نؤثر القصد في الحكم، والتوسط في الأمر، بحيث لا تصبح الأوزان جامدة كما يريده المحافظون وبعض شعراء الغرب؛ مثل: وردزورث، ولا يصبح الأمر فوضى كما يريده دعاة الشعر الحر وبعض شعراء الغرب مثل: كولردج.

وشعراؤنا المعاصرون يمكنهم أن يجددوا في روح القصيدة الشعرية وجوهرها، كحرصهم على تمثل التجربة الشعرية كاملة في قصائدهم، وكذلك الوحدة العضوية للقصيدة، وكذلك سيرهم بالمضمون الشعري ليكون أكثر تعبيرًا عن حاجات الإنسان والمجتمع العربي وآماله.

 أما التجديد في شكل القصيدة العربية الموروث، فنحن نقبله، ولكن في أناة وبقدر، حتى لا يفجأ القراء والسامعون بما لم يألفوا، وربما لا يمت إلى قديمنا بأية صلة، ولنا أسوة بما صنع أسلافنا من ألوان التجديد في البناء الفني للقصيدة العربية.

ويزيد من إيماني برأيي في الشعر الحر -وهو أنه تجديد متطرف لا يقبله الذوق العربي، ولا يتفق مع تراثنا الشعري، ولا يصلح منهجًا شعريًّا لجيلنا العربي- إن كثيرًا من الشعوبيين الحاقدين على العربية وتراثها قد حشروا.أنفسهم في زمرة الداعين إلى حركة الشعر الحر، بل المتطرفين في الدعوة إليه.

والأولى بنا أن نسير في التجديد الشعري بخطوات معتدلة، وفي رفق وأناة وبقدر، بعيدين عن هذا الهدم المقصود أو غير المقصود للبناء الفني الموروث للقصيدة العربية.

والبدء بالتجديد في المضمون الشعري أولى من الإقدام في تطرف على تغيير شكل القصيدة العريبة وبنائها الموروث، الذي يكاد يعصف بمقومات الروح الشعري جملةً، ويصرف أجيالنا المقبلة عن شعرنا القديم وشعرائنا القدماء، مثل أبي تمام، والبحتري، والمتنبي، والمعري، والشريف الرضي، وشوقي، وحافظ، والزهاوي، والرصافي وأضرابهم من الشعراء الخالدين


هل لديك سؤال او استفسار؟







المصادر 

أهدي سبيل إلي علمي الخليل
تعليقات