ابن المعتز وكتاب البديع

ابن المعتز وكتاب البديع


ولعل أول محاولة علمية جادة في ميدان علم البلاغة هي تلك التي قام بها عبد الله بن المعتز (ت 296هــ) في كتابه (البديع)، وقد ألَّفه ردًا على من زعم بأنَّ بشارًا ومسلم بن الوليد وأبا نواس، هم السابقون إلى استعمال البديع في شعرهم.
ولعل أول محاولة علمية جادة في ميدان علم البلاغة هي تلك التي قام بها عبد الله بن المعتز


 يقول ابن المعتز في مقدمة كتابه:" وقد قدَّمنا في أبواب هذا الكتاب بعض ما وجدناه في القرآن الكريم واللغة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والأعراب، وغيرهم من المتقدمين، من الكلام الذي سمَّاه المحدثون البديع، ليُفهَمَ أنَّ بشارًا وأبا نواس ومن تقيَّلهم، وسلك سبيلهم لم يَسْبِقُوا إلى هذا الفن، ولكن كثر في أشعارهم فعُرِفَ في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم..".

ويقول ابن المعتز كذلك" ثم إنَّ حبيب بن أوس الطائي (أبا تمام) من بعدهم شغف به حتى غلب عليه وتفرع فيه، وأكثر منه، فأحسن في بعض ذلك، وأساء في بعض، وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف.
 وإنما كان يقول الشاعر من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة. وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرًا..".

وهكذا فإنَّ ابن المعتز يريد أن يقرر حقيقتين.

 أولاهما أنَّ هذا الفن لم يخترعه المحدثون اختراعًا، بل إنَّ القدماء سبقوهم إلى استعماله.

والثانية أنَّ الفرق بين القدماء والمحدثين في استخدام البديع، أنَّ القدماء لم يسرفوا فيه ولم يستكثروا منه في شعرهم بمناسبة وبغير مناسبة، بخلاف المحدثين الذين أسرفوا في استخدام أساليب البديع حتى بدا أنَّ البديع أصبح عندهم غاية في حد ذاته، وقد ضرب بأبي تمام مثلا على هذا الإسراف.

ويتضمن كتاب (البديع) لابن المعتز، أولا خمسة أبواب يعدُّها أصول البديع الكبرى من وجهة نظره، وهي:
 فنون الاستعارة، الجناس، المطابقة، رد أعجاز الكلام على ما تقدمها، والأخير هو المذهب الكلامي.

ثم يتبع ذلك بذكره ثلاثة عشر فنًّا بديعيًّا،هي:الالتفات، اعتراض كلام في كلام لم يتمم الشاعر معناه ثم يعود إليه ليتممه، الرجوع، حسن الخروج من معنى إلى معنى، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف، هزل يراد به جد، حسن التضمين، التعريض والكناية، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، إعنات الشاعر نفسه في القوافي( وهذا ما سماه المتأخرون لزوم ما لايلزم)،حسن الابتداءات.

وجملة هذه الفنون 18 نوعًا اخترعها ابن المعتز.

ويقرر ابن المعتز أنَّ محاولته تلك ليست إلا لبنة أولى في بناء هذا العلم، وليست قولا نهائيًّا فيه.

 لذلك فإنَّه يشير إلى أنَّ الباب مفتوح أمام من يأتي بعده، ليضيف فنونًا أخرى من البديع لم يذكرها أو غفل عنها، ويمكنه كذلك أنَّ يسمي هذا الأساليب والفنون أسماء أخرى يراها أكثر مناسبة لهذا الفن أو ذاك.
 يقول ابن المعتز: " ولعل بعض من قصر عن السبق إلى تأليف هذا الكتاب ستحدثه نفسه وتمنيه مشاركتنا في فضيلته، فيسمي فنًّا من فنون البديع بغير ما سميناه به، أو يزيد في الباب من أبوابه كلامًأ منثورًا، أو يفسر شعرًا لم نفسره، أو يذكر شعرًا قد تركناه، ولم نذكره..وليس من كتاب إلا وهذا ممكن فيه لمن أراده ..".

المطابقة


وتسمى أيضًا الطباق والتضاد.

والمطابقة في معناها اللغوي تعني أن يضع البعير رجله موضع يده، فإذا فعل ذلك قيل: طابق البعير.

وليس بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي أي مناسبة؛ فالمطابقة في الاصطلاح البلاغي هي: الجمع بين الضدين، أو بين الشيء وضده في الكلام، كالجمع بين اسمين متضادين مثل :النهار والليل ،والبياض والسواد ،والحسن والقبح.أو الجمع بين فعلين متضادين مثل: يظهر و يبطن ، ويعز و يذل، ويحيي ويميت. أو الجمع بين حرفين متضادين، كقوله تعالى :(لها ما كسبتْ وعليها ما اكتسبتْ)، ففي الآية الكريمة مطابقة بين حرفي الجر "اللام، وعلى".

وقد تكون المطابقة بين نوعين مختلفين، كقوله تعالى: "أوَ منْ كان ميتًا فأحييناه"؛ فأحد المتضادين اسم وهو "ميتًا"، والآخر فعل وهو "أحييناه".

أنواع المطابقة:


المطابقة ثلاثة أنواع: مطابقة الإيجاب، ومطابقة السلب، وإيهام التضاد.

مطابقة الإيجاب: هي ما لم يختلف فيه الضدان إيجابًا وسلبًا.

ومن أمثلتها قوله تعالى:(فأولئك يبدِّل اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ)، فالمطابقة في الآية الكريمة بين (سيئات، وحسنات).

ومنه شعرًا قول امرئ القبس:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا

 كجلمودِ صخرٍ حطَّه السيلُ من علِ

فالمطابقة بين (مكر، ومفر)، وكذلك بين (مقبل، ومدبر).

 مطابقة السلب: وهي ما اختلف فيه الضدان إيجابًا وسلبًا، مثل قوله تعالى:(قــل هـل يستـوي الذيـن يعلمـون والذيـن لايعلمـون)؛ فالمطـابقة هنـا بيـن "يعلمون، ولايعلمون"، وأحد الفعلين مثبت والآخر منفي.

ومن مطابقة السلب أيضًا قول امرئ القيس:

جزعتُ ولم أجزعْ من البينِ مجزعا 

 وعزَّيتُ قلبي بالكواعبِ مولَعا

فالمطابقة في البيت بين "جزعت، ولم أجزع"، وهي حاصلة بإيجاب الجزع ونفيه.

إيهام التضاد: وهو أن يوهم لفظ أنه ضد مع أنه ليس بضد، كقول الشاعر:

يبدي وشاحًا أبيضاً من سيبهِ 

 والجوُّ قد لبسَ الوشاحَ الأغبرا


فلفظ "الأغبر " ليس ضد "الأبيض"، وإنما يوهم أنه ضده.

ومن هذا النمط أيضًا قول دعبل الخزاعي:

لا تعجبي يا سلمُ من رجلٍ 

 ضحكَ المشيبُ برأسه فبكى

فالضحك المقصود هنا ليس بضد البكاء، لأنه كناية عن كثرة الشيب، ولكنه من جهة اللفظ يوهم بالمطابقة.

ظهور التضاد وخفاؤه:


قد يكون التضاد بين اللفظين في المعنى ظاهرًا كما في الأمثلة السابقة، وقد يكون خفيًّا كما في قوله تعالى :(مما خطيئاتاهم أغرقوا فأدخِلوا نارًا)؛ فإدخال النار ليس ضد الإغراق في المعنى، ولكنه يستلزم ما يقابله وهو الإحراق، لأن من دخل النار احترق، والاحتراق ضد الغرق.

ومثله كذلك قوله تعالى :(محمدٌ رسولُ اللهِ والذين معه أشداءُ على الكفارِ رحماءُ بينهم)؛ فالمطابقة هنا بين "أشداء، ورحماء"، ولفظ "رحماء" في الحقيقة ليس ضد لفظ "أشداء" في المعنى، ولكن الرحمة تستلزم اللين المقابل للشدة؛ لذا صحت المطابقة من هذه الجهة.

بلاغة المطابقة:


لايكتفى في بلاغة المطابقة بمجرد الإتيان بلفظين متضادين، فهذا أمر سهل يسير؛ وإنما جمال المطابقة أن تتشارك مع أحد أنواع البديع الأخرى.

ومن هذا قوله تعالى:(تولجُ الليلَ في النهارِ وتولجُ النهارَ في الليلِ وتخرجُ الحيّ من الميتِ وتخرجُ الميتَ من الحيِّ وترزقُ منْ تشاءُ بغيرِ حساب).

ففي العطف بقوله تعالى:(َوترزق من تشاء بغير حساب) دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة (أي إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل وغيرها) قادر على أن يرزق بغير حساب من شاء من عباده. وهذه مبالغة التكميل. فهنا اجتمعت المطابقة مع مبالغة التكميل، لذا تحققت بلاغة المطابقة.

ومن هذا أيضًا قول امرئ القيس:

مِكرٍّ مِفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا 

 كجلمودِ صخرِ حطَّه السيلُ من علِ

فالمطابقة في الإقبال والإدبار، ولكنه لما قال "معًا" زادها تكميلًا، والمراد بهذا التكميل قرب الحركة وسرعتها في حالتي الإقبال والإدبار، وحالة الكر والفر. ولو ترك المطابقة مجردة من هذا التكميل ما حصل هذا الحسن ولا تلك البلاغة.

ومن هذا كذلك قول المتنبي:

برغمِ شبيبٍ فارقَ السيفُ كفَّهُ

 وكانا على العلاتِ يصطحبانِ

كأنَّ رقابَ الناسِ قالتْ لسيفهِ:

 رفيقُـكَ قــيسيٌّ وأنت يمــاني

فالمطابقة هنا بين (قيسي، ويماني) وكان بينهما شقاق وتنازع. ولكن الشاعر استخدم لتقوية بلاغة المطابقة محسنًا آخر هو (التورية)، وذلك في لفظ "يماني"؛ لأن الشاعر يقصد أن كف شبيب وسيفه متنافران لا يجتمعان؛ لأن (شبيب)كان قيسيًّا، والسيف يقال له: يماني؛ لأنه منسوب إلى اليمن.

التتميم


وأول من ذكر التتميم هو ابن المعتز، وعدَّه من محاسن الكلام، وسماه" اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه ثم يعود إليه فيتممه في بيت واحد ".

وجاء من بعده قدامة بن جعفر وسماه بهذه التسمية المعروفة "التتميم"، وعرَّفه بقوله:" هو أن يذكر الشاعر المعنى فلا يدع من الأحوال التي تتم بها صحته وتكمل معها جودته شيئًا إلا أتى به".

وقد مثَّل له بقول الشاعر:

لو أنَّ الباخلين وأنت منهم 

 رأوك تعلموا منك المطالا

فالاعتراض بقوله (وأنت منهم) قبل تمام معنى الكلام، هو في الحقيقة تتميم قصد به المبالغة في بخل المحبوبة.

وأتى أبو هلال العسكري واعتمد تعريف قدامة، ولكنَّه أسماه "التتميم والتكميل".

ويمكن القول إن التعريف الذي انتهى إليه البلاغيون هو: "التتميم عبارة عن الإتيان في النظم والنثر بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه".

أقسام التتميم:


التتميم يأتي على ضربين: ضرب في المعنى، وضرب في الألفاظ.

1-التتميم المعنوي: ويجيء للمبالغة والاحتراس. وأكثر ما يجيء في الحشو.

ومن أمثلة مجيئه للاحتراس قول الله تعالى:(من عمل صالحًا من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينَّه حياةً طيبةً).

فقوله: "من ذكر أو أنثى" تتميم، وقوله: "وهو مؤمن " تتميم ثان في غاية البلاغة. ولو حذف أحدهما لنقص معنى الكلام واختل حسنه.

ومنه أيضًا قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "ما من مسلم يصلي لله كلَّ يوم اثنتي عشرة ركعة من غير الفرائض إلا بنى الله له بيتًا في الجنة".

فقد وقع التتميم هنا في أربعة مواضع هي: قوله "مسلم"، وقوله "الله"، وقوله "كل يوم"، وقوله "من غير الفرائض".

وحذف أيٍّ من هذه التتميمات ينقص من معنى الحديث ويقلل من قيمته البلاغية.

ومن أمثلته شعرًا قول الشاعر:

فلا تأمنَّنَّ الدهرَ حرًّا ظلمته

 فما ليلُ مظلومٍ كريمٍ بنائمِ

فقوله: "كريم" تتميم؛ لأن اللئيم يتغاضى عن العار، ولا يأخذ بالثأر .

ومثال ما جاء فيه التتميم للمبالغة قول زهير بن أبي سلمى:

من يلقَ يومًا على علاتِهِ هرمًا

 يلقَ السماحةَ منه والنَّدى طَرَقا

فقوله: "على علاته" تتميم للمبالغة.

ومنه كذلك ما جاء للمبالغة، وهو قوله تعالى:(ويطعمونَ الطعامَ على حبِّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرا"؛ فقوله: "على حبِّه" تتميم للمبالغة.

2-التتميم اللفظي: ويقصد به التتميم الذي يؤتى به لإقامة الوزن ،بحيث لو حذفت الكلمة تم معنى البيت بدونها.

وهذا النوع على ضربين أيضًا: كلمة لا تفيد إلا إقامة الوزن، وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضربًا من المحاسن، فالأولى من العيوب، والثانية من المزايا البلاغية. ومن هذا الضرب الثاني الجيد قول المتنبي:

وخُفوقُ قلبٍ لو رأيتِ لهيبَهُ 

 يا جنتي لظننتِ فيه جهنما

فقد جاء بقوله: "يا جنتي" لإقامة الوزن، لكنها أفادت في الوقت ذاته تتميم المطابقة بين "الجنة" و"جهنم".

وقد ذكرنا أن أبا هلال العسكري جعل التتميم والتكميل مترادفين، وتبعه بعض البلاغيين في هذا الأمر، غير أن البلاغيين المتأخرين فرقوا بين الأمرين؛ فالتتميم عندهم يرد على المعنى الناقص فيتمه، أما التكميل فيرد على المعنى التام فيكمله. والكمال أمر زائد على التمام.

والتتميم أيضًا يختلف عن الإيغال؛ فالتتميم كما ذكرنا يأتي على المعنى الناقص فيتمه، أما الإيغال فحين يرد على المعنى التام فهو يفيد فائدة يتم الكلام بدونها كالمبالغة مثلًا.

بلاغة التتميم:


يمكن بيان أثر التتميم في تحسين المعنى, وبلاغته عندما نقارن هنا بين بيتين لطرفة بن العبد وذي الرمة في معنى واحد.

فطرفة في دعائه لديار صاحبته يقول:

فسقى ديارك غير مفسدها 

 صوب الربيعِ وديمة تهمي

فقوله( غير مفسدها) فيه إتمام للمعنى بما يفيد أنَّه يدعو لديار صاحبته ،بأن يسقيها بالقدر المطلوب من المطر، وليس بالقدر الذي يزيد عن حاجتها ،فيصيبها بالتلف والإفساد، وهذا التتميم بالاحتراس من البديع حقًّا.

أما ذو الرمة ففي دعائه لدار صاحبته، يقول:

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى

 ولا زال منهلًّا بجرعائك القطرُ

فذو الرمة يدعو لدار صاحبته مي بالسلامة، وبأن يظلَّ ينهلُّ وينصبُّ على دارها انصبابًا شديدًا، وهذا بالدعاء عليها أشبه منه بالدعاء لها؛ لأن القطر إذا انهلَّ فيها بصفة دائمة فسدت، وهذا العيب ناشئ من أنَّ الشاعر لم يتم معناه، ولم يحترز كما فعل طرفة في البيت.

التقسيم


التقسيم فن من فنون البديع المعنوي، وهو في اللغة مصدر قسَّمت الشيء إذا جزَّأته. أما في الاصطلاح البلاغي فقد اختلفت فيه العبارات ،ولكنها جميعًا تعود على معنى واحد.

فقد عرض له أبو هلال العسكري وعرَّفه بقوله: "التقسيم الصحيح: أن تقسم الكلام قسمة مستوية تحتوي على جميع أنواعه".

وكذلك عرَّفه ابن أبي الإصبع بقوله: "التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه".

وقد استشهد ابن أبي الإصبع على تعريفه هذا بقوله تعالى :(الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم)، فقد استوفت الآية جميع الهيئات الممكنة التي يتخذها البشر في ذكرهم الله.

ومن التعريفات السابقة يمكن القول بأن التقسيم يطلق على أمور:

أحدها: استيفاء جميع أقسام المعنى ،وقد ينقسم المعنى إلى اثنين لا ثالث لهما ،أو إلى ثلاثة لا رابع لها ،أو إلى أربعة لا خامس لها.

فمن أمثلة تقسيم المعنى إلى اثنين لا ثالث لهما قول الشماخ يصف صلابة سنابك الحمار:

متى ما تقع أرساغُه مطمئنةً 

 على حجرٍ يرفضُّ أو يتدحرجُ

فسنابك الحمار إذا وقعت على شيء رخو تتفرق عنه، وإذا وقعت على شيء صلب تتدحرج عنه .ولا يوجد احتمال ثالث .

ومن تقسيم المعنى إلى ثلاثة لا رابع لها قول زهير:

فإن الحقَ مقطعُهُ ثلاثٌ

 يمينٌ أو نِفارٌ أو جِلاء

فليس لبيان الحق إلا هذه الأقسام الثلاثة.

ومنه كذلك قول نصيب:

فقال فريقُ القومِ: لا، وفريقُهم: 

 نعم ،وفريقٌ قالَ:ويحكَ ما ندري

فليس في أقسام الإجابة عن السؤال غير هذه الأقسام الثلاثة.

والأمر الثاني الذي قد يطلق التقسيم عليه يتمثل في ذكر أحوال الشيء مضافًا إلى كل حالة ما يلائمها ويليق بها.

ومن هذا قول الشاعر:

يطعنُهم ما ارتموا حتَّى إذا طَّعنوا 

 ضاربَ حتَّى إذا ما ضاربوا اعتنقا

فالشاعر جاء في هذا البيت بجميع الحالات الممكنة التي استعملها الممدوح مع أعدائه في وقت الحرب مضيفًا إلى كل حالة ما يناسبها؛ فذكر طعن الممدوح مع حالة ارتمائهم، وذكر ضرب الممدوح لأعدائه مع حالة طعنهم، ثم ذكر اعتناقه لأعدائه مع حالة مضاربتهم.

ومن نماذجه أيضًا قول طريح الثقفي:

إنْ يسمعوا الخيرَ يُخفوهُ وإنْ سمعوا 

 شرًّا أذاعوا وإنْ لم يسمعوا كذبوا

فقد جعل الشاعر هنا القوم الذين يهجوهم بين حالات ثلاث، وجعل لكل حالة ما يناسبها، فعندما يسمعون الخير يخفونه، وعندما يسمعون الشر يذيعونه، وعندما لا يسمعون خيرًا او شرًّا يكذبون.

والأمر الثالث الذي قد يطلق التقسيم عليه يتمثل في التقطيع، ويقصد به تقطيع البيت الشعري إلى مقاطع متساوية في الوزن.

ومن أمثلة ذلك قول المتنبي:

فيا شوقُ ما أبقى ويا لي من النوى 

 ويا دمعُ ما أجرى ويا قلبُ ما أصبى

فقد جاء الشاعر بهذا البيت مقسمًا على تقطيع الوزن، كل لفظتين ربع بيت.

ومنه أيضًا للشاعر نفسه قوله:

للسَّبي ما نكحوا والقتلِ ما ولدوا 

 والنهبِ ما جمعوا والنارِ ما زرعوا

فقد جاء البيت مقسَّمًا مقطَّعًا إلى أربعة مقاطع متساوية في الوزن.

عيوب التقسيم:


التقسيم الذي يستوعب جميع أحوال المعنى وأقسامه هو التقسيم الصحيح كما ذكرنا.

ولكن التقسيم قد تفسده بعض الأمور وتنقص من قيمته، ومن ذلك:

1-عدم استيفاء كل أقسام المعنى، كقول جرير:

صارتْ حنيفةُ أقسامًا فثلثهم 

 من العبيدِ وثلثٌ من موالينا

فالشاعر ذكر أن حنيفة ثلاثة أقسام، ثم ذكر منها قسمين، ولم يذكر القسم الثالث.

2-دخول أحد القسمين في الآخر، كقول أمية بن أبي الصلت:

لله نعمتُنا تباركَ ربُّنا 

 ربُّ الأنام وربُّ من يتأبَّد

فالقسمة هنا فاسدة؛ لأن من "يتأبد ويتوحش" داخل في عداد الأنام.

وكقول جميل:

لو كانَ في قلبي كقدرِ قُلامة

 حبًّا وصلتُك أو أتتْكِ رسائلي

فالقسمان في البيت متداخلان؛ لأن إتيان الرسائل داخل في الوصل.

الالتفات


يُعدُّ الأصمعي (ت216هـــ) أول من ذكر الالتفات، فقد روي عن إسحق الموصلي أنه قال: قال لي الأصمعي، أتعرف التفاتات جرير، قلت وماهو؟ فانشدني قوله:

أتنسى إذ تودعنا سُليمى

 بعودِ بشامةٍ سقي الغمامُ

أما تراه مقبلا على شعره، إذ التفت إلى البشام،فذكره فدعا له.

وقد عدَّ ابن المعتز الالتفات من محاسن الكلام وبديعه، فعرَّفه، ومثَّل له من القرآن الكريم والشعر.

فهو يعرِّفه، فيقول:

الالتفات هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، ومن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك. ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر".

ثم مثَّل لانصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، أو بتعبير آخر انصرافه عن الخطاب إلى الغيبة، بقوله تعالى (هو الذي يُسيِّرُكمْ في البرِّ والبحرِ حتى إذا كنتُم في الفلكِ وجرينَ بهم بريحٍ طيبةٍ..).

فالالتفات في الآية الكريمة هو في قوله تعالى"حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم..".

ومثَّل ابن المعتز كذلك لانصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، أو بتعبير آخر لانصرافه عن الغيبة إلى الخطاب، بقول جرير:

طربَ الحمامُ بذي الأراكِ فشاقني

 لازلتَ في غلَلٍ وأيكٍ ناضرِ

فجرير أخبر عن الغائب في الشطر الأول، وهو الحمام، ولكنه انصرف في الشطر الثاني عن الاستمرار في خطاب هذا الغائب،فالتفت إلى مخاطبة نفسه بقوله(لازلتَ في عللٍ وأيكٍ ناضر).

أما النوع الثالث من الالتفات عند ابن المعتز، وهو انصراف المتكلم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر، فقد مثَّل له بقول أبي تمام:

وأنجدتمو من بعدِ إتهامِ داركِمْ

 فيادمعُ أنجدني على ساكني نجدِ

فالشاعر، وهو المتكلم هنا، يخبر من يخاطبهم بأنَّه يعلم أنَّهم قد اتخذوا دارهم في نجد، بعد أن كانت في تهامة، ثم ينصرف بعد ذلك إلى معنى آخر، يتمثل في دعاء الدمع ومطالبته بأن يسعفه على ساكني نجد.

وجاء قدامة بن جعفر ليعدَّ الالتفات من نعوت المعاني، وعرَّفه بقوله:
" الالتفات أن يكون الشاعر آخذًا في معنى، فيعترضه إما شكٌّ فيه أو ظنٌّ بأن رادًّا يرد عليه قوله، أو سائلا يسأله عن سببه، فيعود راجعًا إلى ما قدمه، بمعنى يلتفت إليه بعد فراغه، فإما أن يذكر سببه أوة يجلِّي الشك فيه".

ومن أمثلة الالتفات التي ذكرها قدامة قول الشاعر:

تبين صلاةُ الحربِ منَّا ومنهمو

 إذا ماالتقينا والمسالمُ بادنٌ

فقوله(والمسالم بادن) رجوع عن المعنى الذي قدمه، حين بيَّن أن علامة (صلاة الحرب) من غيرهم أن المسالم يكون بادنًا، والمحارب ضامرًا.

وفي تقديرنا أنَّ أفضل من درس أسلوب الالتفات هو ضياء الدين بن الأثير، فقد تناوله بوضوح وفهم لأسراره البلاغية.

ويبدأ ابن الأثير كلامه عن الالتفات ببيان حقيقته، فيقول:
" وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله، فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة؛لأنه ينتقل فيه من صيغة إلى صيغة،كالانتقالات من خطاب حاضر إلى غائب،أو من خطاب غائب إلى حاضر، أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماض، أو غير ذلك..".

ويسمَّى هذا الأسلوب عنده أيضًا (شجاعة العربية)،وإنما سمي بذلك لأنَّ الشجاعة هي الإقدام،وذاك أنَّ الرجل يركب ما لايستطيعه غيره، ويتورد ما لايتورده سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام..".

وقد جعل ابن الأثير الالتفات أقسامًا درسها بالتفصيل، وهي:

1-الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة. وفيه يقرر ابن الأثير أنَّ العلماء يرون أنَّ هذا من عادة العرب في أساليبهم، ولم يرتضِ ابن الأثير بهذا التفسير، وكذلك لم يرتضِ بوجهة نظر الزمخشري الذي رأى أنَّ الرجوع من الغيبة إلى الخطاب،إنَّما يستعمل للتفنن في الكلام، والانتقال من أسلوب إلى أسلوب تجديدًا لنشاط السامع، وإيقاظًا للإصغاء إليه.

فابن الأثير يرفض هذا كله، ويرى أنَّ الانتقال من الغيبة إلى الخطاب مثلا، قد يكون الغرض منه تعظيم شأن المخاطَب، وهذا الغرض نفسه قد يكون سببًا للانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فهو يرى أنَّ الغرض في استعمال الالتفات لايجري على غاية واحدة، وإنَّما يحكمه الموضع الذي يرد فيه.

فمثلا الالتفات والعدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى( وقالوا اتخذَ الرحمنُ ولدًا لقد جئتم شيئًا إدا)، وفيه قوله( لقد جئتم شيئًا إدا) وهو خطاب للحاضر، بعد قوله ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) وهو خطاب للغائبين، لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل على قائلي هذا القول بالجرأة على الله، والتنبيه لهم على عظم ما قالوه بحق الله تعالى، فكأنَّه يخاطب قومًا حاضرين أمامه، يقوم بتوبيخهم.

ومن هذا النوع أيضًا، أي من الالتفات بالرجوع أو العدول عن الغيبة إلى الخطاب، قول الشاعر:

وهل هي إلا مهجةٌ يطلبونها

 فإنْ أرضت الأحبابَ فهي لهم فدى

إذا رمتمو قتلي وأنتم أحبتي

 فماذا الذي أخشى إذا كنتمو عدى

فالبيت الثاني قد جاء وهو خطاب للحاضر بعد البيت الأول، وهو خطاب للغائب،

والغرض البلاغي من وراء الالتفات بالعدول عن الاستمرار في الإخبار عن الغائب إلى مخاطبته، هو تمثل أحبته الغائبين في البيت الأول، كأنهم حاضرون أمامه ليوبخهم ويلومهم على عدم معاملته بالمثل، وذلك بالمقارنة بمشاعرهم نحوه، فهو على أتم الاستعداد لأن يفديهم بمهجته، إن أرضاهم ذلك، وهو يريدون قتله بالتمادي في هجرانه والإعراض عنه، كما لوكان عدوا لهم.









تعليقات