بشار بن برد الشاعرالضريرالبصير
كان بشار بن برد شاعراً مجيداً ظريفاً متمكناً.
خدم بشار بن برد الملوك وحضر مجالس الخلفاء، وأخذ الجوائز والهدايا .
وكان بشار بن برد يمدح الخليفة العباسي المهدي ويحضر مجلسه، وكان المهدي يأنس به ويدنيه ويجزل له العطايا.
وكان بشار بن برد صاحب صوت حسن ومنادمة، وكان حضر المهدي في مجلس مع الجواري والحريم وأرسل المهدي إليه لأجل المسامرة والمحادثة وكان بشار يعد من الخطباء البلغاء الفصحاء.
سبب مقتل بشار بن برد
ولبشار بن برد قصائد وأشعار كثيرة، فوشى به بعض من لا يحبونه إلى المهدي بأنه يدين بدين الخوارج فقتله المهدي.
وقيل: بل قيل للمهدي: إن بشار بن برد قال شعرا سيئا فيك ، فقتله والذي صح من الأخبار في قتل بشار أنه كان يمدح المهدي، والمهدي ينعم عليه، فرمي بالزندقة فقتله.
وقيل: ضربه سبعين سوطاً فمات؛ وقيل ضرب عنقه. وكانت وفاته سنة سبع، وقيل: ثمان وستين ومائة في أيام المهدي.
ولما توفي بشار بن برد تذكر المهدي بشار بن برد وحسن معاشرته له. كان أنيس مجلسه وقد كان معجباً به وبشعره، وكان يدنيه، وكان بشار كفيفاً قبل موته بأربعين سنة، ولهذا كان يحضر المجلس والجواري عند المهدي لكونه لا يبصرهن.
وحكى أن المهدي لما قتل بشاراً ندم على قتله وأحبّ أن يجد شيئاً يتعلق به، فبعث إلى كتبه، فأحضرها وأمر بتفتيشها طمعاً في أن يجد فيها شيئاً مما حزبه عليه، فلم يجد من ذلك شيئاً.
ندم المهدي علي قتل بشار بن برد
ومرّالمهدي بوعاء مغلق لبشار بن برد، فظن أن فيه شيئاً، فأمر بفتحة، فوجد فيه : بسم الله الرحمن الرحيم، إني أردت أن أهجو آل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، فذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، فمنعني ذلك من هجوهم، ووهبت جرمهم لله عز وجل، وقد قلت بيتين لم أذكر فيهما عرضاً ولم أقدح في دين، وهما:
دينار آل سليمان ودرهمهم
كالبابليين شدّاً بالعفاريت
لا يوجدان ولا يرجى لقاؤهما
كما سمعت بهاروت وماروت
فحزن المهدي وقال في نفسه : الآن صح الندم.
وحدثني أبو جعفر قال: قال ابن أبي أفلح: قال رجل لبشار: إن الله عز وجل ما سلب أحداً كريمتيه إلا عوضه عنهما حسن صوت أو ذكاء، فأنت فماذا عوضك من بصرك؟ فقال: عوضني فقدان النظر إلى ابن حرام مثلك.
سبب فساد دين بشار بن برد
قال السدري: كان بشار بن برد من أفقه الناس وأعلمهم بكتاب الله فعاشر قوماً من الحرانيين فخبث دينه. وكان مفتنا بارعاً، وكان من الشعر بمكان لم يكن به أحد غيره، وكان يقول: ما أعلم شيئاً مما عندي أقل من الشعر.
حدَّثني ابن أبي أفلح قال: أخبرني أبو حاتم السجستاني قال: سئل أبو عبيدة - وأنا حاضر - عن شعر بشار بن برد فقال شذرة ونقرة.
قال: ودخل المهدي أيام خلافته على جماعة من جواريه، وهن مجتمعات في حجرة بعضهن، فجلس عندهن يشرب، فقلن له: لو أذنت لبشار بن برد في الدخول علينا لنسامره ونحادثه - وكان من أحسن الناس حديثاً وأظرفهم مجلساً، وأكثرهم ملحا - فأمر به فأحضر.وتك كانت تسلية ذلك العصر.
.
واجتمعن علي بشار بن برد فحدثهن، وجعل يسرد عليهن من نوادره وملحه وينشدهن عيون شعره، فسررن بذلك سروراً شديداً.
وقلن له: يا بشار، ليتك أبونا فلا نفارقك أبداً. قال: نعم، وأنا على دين كسرى. فضحك منه المهدي، وأمر له بجائزة. - يقصد هنا ان الفرس لا يجدون حرجاً في دينهم في إتيان بناتهم.
بشار بن برد يصورجارية المهدي عارية
نظرالمهدي يوماً على بعض جواريه، وهي عريانة تغتسل، فأحست به، فضمت فخذيها، وسترت عورتها بكفيها، فلم يشملاه،- لم تكفي يديها الصغيرتين لتغطية فرجها - حتى انثنت فسترته بعكن بطنها، فخرج المهدي ضاحكاً، وبشار في الدار، فقال: أجز هذا البيت. " أبصرت عيني لحيني " فقال بشار على البديهة:
أبصرت عيني لحيني
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
منظراً وافق شيني
سترته إذ رأتني
تحت بطن الراحتين
فبدت منهُ فضول
لم توار باليدين
فانثنت حتى توارت
بين طيٍّ العكنتين
فقال المهدي: والله ما أنت إلاّ ساحر، ولولا أنك أعمى لضربت عنقك، ولقد حكيت الأمر على وجهه حتى كأنك رأيته، ولكني أعلم أن ذلك من فرط ذكائك، وجودة فطنتك.
بشار بن برد والنابغة الذبياني
وبشار بن برد هنا يحاكي النابغة الذبياني في قصيدته المتجردة علي أن النابغة أسبق وأبلغ
وكان بشار بن برد مولى لبنى عقيل. وقال بعضهم: لبنى سدوس، وكان يلقب المرعث. والمرعث: المقرط، والرعاث: القرط. وكان يرمي بالزندقة، وهو القائل:
بشار بن برد يؤمن بيوم الحساب
كيف يبكي لمحبس في طلول
من سيبكي لحبس يوم طويل
إنّ في البعث والحساب لشغلا
عن وقوف برسم دارٍ محيل
وهذان البيتان يدلان على صحة إيمانه بالبعث. وكان بشار بن برد مطبوعاً جدّاً لا يتكلف، وهو أستاذ المحدثين وسيدهم، ومن لا يقدم عليه، ولا يجارى في ميدانه. والصحيح عند أهل العلم أن المهدي قتله بهجوه يعقوب بن داوود وزيره بقوله
بشار بن برد يحرض علي العباسيين
بني أمية هبوا طال نومكم
إنّ الخليفة يعقوب بن داوود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الزقّ والعود
بشاربن برد الفاسق
وقال قوم: بل قتله على قوله:
لا يؤيسنك من مخبأة
قول تغلظه وإن قبحا
عسر النساء إلى مياسرة
والصعب يمكن بعدما جمحا
فقال المهدي: رميت جميع نساء العالمين بالفاحشة. والقول الأول أصح.
بشار بن برد وحماد عجرد
وكان حماد عجرد يهجو بشاراً ولا يلتفت إليه حتى قال فيه:
ويا أقبح من قرد
إذا ما عمي القرد
وما اشتد عليه قوله:
لو طليت جلدته عنبرا
لنتنت جلدته العنبرا
أو طليت مسكاً ذكياً إذا
تحول المسك عليه خرا
وكان حماد مفلقاً مجيداً، إلا أن موضعه لم يدان بشاراً ولا يقاربه.
ومن جيد شعر بشار كلمته في عمر بن العلاء:
إذا نبهتك حروب العداة
فنبه لها عمراً ثم نم
ولولا الذي زعموا لم أكن
لأمدح ريحانة قبل شمّ
وحضر بشار بن برد يوماً مجلس عقبة بن سلم الهنائي، وقد حضر عقبة بن رؤبة بن العجاج ينشده أرجوزة، فأعجبت بشار. فقال عقبة: يا أبا معاذ، هذا طراز لا تحسنه أنت ولا نظراؤك، فغضب بشار فقال: تقول هذا؟ والله إني لأرجز منك ومن أبيك ومن جدك. ثم غدا على عقبة ابن سلم الهنائي بأرجوزته الدالية التي يقول فيها:
يا طلل الدار بذات الصمد
بالله خبر كيف كنت بعدي
وفيها يقول:
الحر يلحى والعصا للعبد
وليس للمحلف مثل الردّ
وصاحب كالدمل الممد
حملته في رقعة في جلد
فأعجب به عقبة، وقال لأبن رؤبة: والله ما قلت أنت ولا أبوك ولا جدك مثل هذا. ووصل بشاراً وأجزل له العطية.
وكان بشار بن برد أستاذ أهل عصره من الشعراء غير مدافع، ويجتمعون إليه وينشدونه ويرضون بحكمه.
وتشبيهاته - على أنه أعمى لا يبصر - من كل ما لغيره أحسن. ومن ذلك قوله:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
ومن خبيث هجائه قوله:
فلا تبخلا بخل ابن قزعة إنه
مخافة أن يرجي نداه حزين
إذا جئته للعرف أغلق بابه
فلم تلقه إلا وأنت كمين
فقل لأبي يحيى: من تبلغ العلا
وفي كل معروف عليك يمين؟
وفيه يقول:
بجدك يا بن قزعة نلت مالاً
ألا إن اللئام بهم جدود
ومن حذر الزيادة في الهدايا
أقمت دجاجة فيمن يزيد
ومما يستحسن لبشار، لإحكام رصفه، وحسن وصفه كلمته التي يقول فيها بيته الذي ذكرناه في التشبيه، فأولها:
جفا جفوة فازور إذ مل صاحبه
وأزرى به أن لا يزال يصاحبه
خليلي لا تستكثرا لوعة الهوى
ولا لوعة المحزون شطت حبائبه
شفى النفس ما يلقى بعبدة مغرماً
وما كان يلقى قلبه وضرائبه
فأقصر عن داعي الفؤاد وإنما
يميل به أمس الهوى ويطالبه
إذا كان ذواقاً أخوك الهوى
توجّهه في كلّ أوب ركائبه
فخّل له وجه الطريق ولا تكن
مطيّة رحّال كثير مذاهبه
أخوك الذي إن ربته قال إنما
أربت وإن عاتبته لان جانبه
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
أخاً لك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه
مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟
من الحيّ قيس قيس عيلان إنها
عيون الندى منها تروي سحائبه
وما زال منها ممسك بمدينة
يراقب أو ثغر تخاف مرازبه
إذا الملك الجبار صعر خدّه
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
وكنّا إذا دبّ العدوّ لسخطنا
وراقبنا في ظاهر لا نراقبه
غدونا له جهراً بكلّ مثقف
وأبيض تستسقي الدماء مضاربه
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
وأرعن يعشى الشمس لون حديده
وتخلس أبصار الكماة كتائبه
تغص به الأرض الفضاء إذا غدا
تزاحم أركان الجبال مناكبه
تركنا به كلبا وقحطان تبتغي
مجيراً من الهبل المطلّ مغالبه
بشار يعد في الخطباء والبلغاء
وكان بشار يعد في الخطباء والبلغاء. ولا أعرف أحداً من أهل العلم والفهم دفع فضله ولا رغب عن شعره. وكان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة وأسلس على اللسان من الماء العذب. ومما يستحسن من شعره - وإن كان كله حسناً - قوله:
أمن تجنّي حبيب راح غضبانا
أصبحت في سكرات الموت سكرانا
لا تعرف النوم، من شوق إلى شجن
كأنما لا ترى للناس أشجانا
أود من لم ينلني من مودته
إلا سلاماً يردّ القلب حيرانا
يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
بشار بن برد والبوصيري
ولعل الإمام البوصيري استلهم مطلع البردة ووزنها من قصيدة بشار بن برد هذه
وهذا معنى بديع لم يسبقه إليه أحد. وهذه قصيدة طويلة وقد قدمنا في كتابنا هذا أنا نروم الإيجاز والاختصار.
بشار بن برد سابق إلي معاني جديدة
ومما يستحسن من شعره أيضاً وهو المعنى الذي لم يسبق إليه:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألمّ
فاهجر الشوق إلى رؤيتها
أيها المهجور إلا في الحلم
حدثني عن كتابٍ جاءني
منك بالذم وما كنت أذم
ومن مستحسن شعره رائيته العجيبة البديعة المعاني الرفيعة المباني:
رأيت صحابتي بخناصرات
حمولا بعد ما متع النّهار
فكاد القلب من طرب إليهم
ومن طول الصّبابة يستطار
وفي الحيّ الذين رأيت خود
خلوب الدل آنسةٌ نوار
برود العارضين كأن فاها
بعيد النوم عانقه عقار
كأنّ فؤاده كرةٌ تنزّى
حذار البين لو نفع الحذار
يروّعه السرار بكلّ شيءٍ
مخافة أن يكون به السّرار
وودّا لليل زيد إليه ليلٌ
ولم يخلق له أبداً نهارُ
جفت عيني عن التغميض حتّى
كأنّ جفونها عنها قصار
وبلغني أن مسلم بن الوليد وجماعة، منهم أبو الشيص وأبو نواس وغيرهما، كانوا عند بعض الخلفاء، فسألهم عن ديباج الشعر الذي لا يتفاوت نمطه
فأنشدوه لجماعة من المتقدمين والمحدثين، فكأنه لم يقع منه بالغرض، وسأل عن أحسن من ذلك، فقال أبو نواس: أنا لها يا أمير المؤمنين. وأنشد هذه الأبيات الرائية لبشار، فاستحسنها جدّاً، وقال: ومما أجاد فيه وأفرط قوله في الافتخار:
أقوي ما قال بشار بن برد في الفخر
إذا ما غضبنا غضبة مضريّةٌ
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دماً
إذا ما أعرنا سيّداً من قبيلة
ذرى منبر صلّى علينا وسلّما
وقائل هذا الكلام البليغ هوالقائل
ربابة ربة البيت
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت
ولما سئل عن هذا الإسفاف قال هذه عند ربابة - ربابة جاريته التي تقوم علي خدمته - خير من قفا نبك
ومما يستحسن له قوله في عقبة بن سلم:
حيّيا صاحبيّ أمّ العلاء
واحذرا طرف عينها الحوراءِ
إن في طرفها دواء وداءً
لمحبّ، والداء قبل الدواء
عذبتني بالحب عذبها الل
هـ بما تشتهي من الأهواء
يقع الطير حيث يلتقط الح
ب وتغشى منازل الكرماء
إنما همة الجواد ابن سلم
في عطاء وموكب أو لقاء
ليس يعطيك للرجاء وللخو
ف ولكن يلذ طعم العطاء
ومما يختار من مديحه قوله في ابن العلاء
فتى لا يبيت على دمنة
ولا يلعق الشهد إلا بسمّ
ثم يأخذ في الافتخار في قوله منها:
ألا أيّها السائلي جاهلاً
لتعرفني أنا أنف الكرم
نمتني الجياد: بنو عامر
فروعي وأصلي قريش العجم
وإنّي لأغني مقام الفتى
وأصبي الفتاة ولا تعتصم
ومن غزله الطيب الحسن المليح قصيدته التي عرفت بيضة الديك
يا منية القلب إنّي لا أسميك
أكني بأخرى أسميها وأعنيك
يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر
إلاّ شهادة أطراف المساويك
قد زرتنا زورة في الدّهر واحدة
فاثني ولا تجعليها بيضة الديك
يا رحمة الله حلّى في منازلنا
حسبي برائحة الفردوس من فيك
ومن بدائعه قوله:
وخريدة سودٍ ذوائبها
قد ضمخت بالمسك والورس
أقبلن في رأد الضحاء بها
فسترن عين الشمس بالشمس
وله القصيدة المشهورة التي يقول فيها هذا البيت "
يا رحمة الله … الخ " وقد ضمنه أبو نواس بشعره وهو هذا البيت:
يا رحمة الله حلي في منازلنا
وجاورينا فدتك النفس من جار
وأخبار بشار كثيرة ونوادره في الشعر وطرائفه أكثر من أن يتضمنها هذا الكتاب على ما قدمنا فيه من إيثارها الإيجاز والاختصار وقد أتينا بما يستدل على ما سواه
المصادر
الكتاب: طبقات الشعراء
المؤلف: عبد الله بن محمد ابن المعتز العباسي (ت ٢٩٦هـ)
المحقق: عبد الستار أحمد فراج
الناشر: دار المعارف - القاهرة