لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ


لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ



 يقول الشاعر فاروق شوشة في تقديم القصيدة في كتابه أحلي عشرين قصيدة حب :وهذا شاعر قتله طموحه يعرفه دارسوا الأدب ومحبوه.

 لكنهم لا يعرفون له غير هذا الأثر الشعري الفريد يتناقله الرواة وتغني به دواوين الشعر العربي.


قصيدة بن زريق البغدادي-لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ  قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ



  فإذا ما تساءلنا عن الشاعر وعن سائر شعره فلن نظفر من بين ثنابا الصفحات بغير بضعة سطور تحكي لنا مأساة الشاعر العباسي: ابن زريق البغدادي الذي ارتحل عن موطنه الأصلي في بغداد قاصدا بلا د الأندلس عله يجد فيها من لين العيش وسعة الرزق ما يعوضه عن فقره .

ويترك الشاعر في بغداد زوجة يحبها وتحبه كل الحب ويخلص لها وتخلص له كل الأخلاص من اجلها يهاجر ويسافر ويغترب.

 وفي الأندلس كما تقول لنا الروايات والأخبار المتناثرة يجاهد الشاعر ويكافح من أجل تحقيق الحلم لكن التوفيق لا يصاحبه والحظ لا يبتسم له فهناك يمرض ويشتد به المرض ثم تكون نهايته في الغربة .

ويضيف الرواة بعداً جديدا للمأساة فيقولون أن القصيدة التي لايعرف له شعر سواها وجدت معه عند وفاته سنةاربعمائة وعشرون للهجرة يخاطب ففيه زوجه ويؤكد لها حبه حتي الرمق الأخير من حياته ويترك لنا -نحن قراؤه من بعده - خلاصة أمينه لتجربته مع الغربة والرحيل من أجل الرزق وفي سبيل زوجته التي نصحته بعدم الرحيل فلم يستمع إليها .

 ثم هو في ختام قصيدته نادم -حيث لم يعد ينفع الندم أو يجدي- متصدع القلب لوعة وأسي حيث لا أنيس ولا رفيق ولا معين.
 
والمتأمل في قصيدة بن زريق البغدادي لابد له أن يكتشف علي الفور دقة التعبير فيها وصدق لغته وحرارة التجربة  فهي تنم عن أصالة شاعر مطبوع له لغته الشعرية المتفردة وخياله الشعري الوثاب وصياغته البليغة المرهفة ونفسه الشعري الممتد. 

والغريب ألا يكون لابن زريق غير هذه القصيدة مثله كمثل دوقلة المنبجي التي لم تحفظ له كتب التراث الشعري غير قصيدته اليتيمة 
وهكذا استحق الشاعران البقاء والذكر في ذاكرة الشعر العربي كله 
بقصيدة واحدة لكل منهما.

وبالمقابل ما اكثر الشعراء الذين لاتعيهم ذاكرتنا بالرغم من أنهم سودو ا مئلت الصفحات وتركوا عشرات القصائد وزحموا الدواوين والمكتبات .

يستهل بن زريق قصيدته بمخاطبة زوجته يناشدها ألا تعذله أو تلومه فقد أثر فيه اللوم وآذاه وأضر به بدل من أن ينفعة .

إنه هنا يبسط بين يديها أسباب رحيله عنها وتركه لها طمعا في الرزق الفسيح والعيش الهانئ الوثير وسرعان ما يعلن عن ندمه لأن ما أمله لم يتحقق وما رجاه من رزق وفير لم يتح له.

ثم يلتفت بن زريق التفاتة محب عاشق إلي بغداد حيث زوجته التي تركها دون أن يستمع غلي نصحها إنها مملكته التي أضاعها ولم يحسن تدبيرها وعرشة الذي خلع عنه .

وفي ختام القصيدة يصف بن زريق في تعبير صاف مؤثر ونسيج شعري محكم واقع حاله في الغربة بين الأسي واللوعة والالم والندم.

 وهنا ينفسح المجال للتامل وينطلق اللسان بالحكمة التي أنضجتها التجربة ويشرق القلب بالدموع. 

 

يقول بن زريق البغدادي 




لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ

قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ

جاوَزتِ فِي لَومهُ حَداً أَضَرَّبِهِ

مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُ

فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً

مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ

قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ

فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ

يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ

مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ

ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ

رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ

كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ

مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ

إِنَّ الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً

وَلَو إِلى السِّندِ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ

تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه

للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ

وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ

رزقَاً وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ

قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ

لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ

لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى

مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ

وَالحِرصُ في الرِزقِ- وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت-

بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ

وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه

إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ

اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً

بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ

وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي

صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ

وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً

وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ

لا أَكُذب اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ

عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ

إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ

بِالبينِ عِنهُ وَقلبي لا يُوَسِّعُهُ

رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ

وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا

شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ

اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ

كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ

كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ

الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ

أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ

لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ

إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفِنُها

بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ

بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَهُ

بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ

لا يَطمِئنُّ لِجَنبي مَضجَعُ وَكَذا

لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ

ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ الدهرَ يَفجَعُنِي

بِهِ وَلا أَن بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ

حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ

عَسراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ

بالله يامنزل القصف الذي درست

اثاره وعفت مذ غبت اربعه

هل الزمان معيد فيك لذتنا

أم الليالي التي مرت وترجعه

فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ

وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ

مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ

كَما لَهُ عَهدُ صِداقٍ لا أُضَيِّعُهُ

وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا

جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ

لَأَصبِرَنَّ لِدهرٍ لا يُمَتِّعُنِي

بِهِ وَلا بِيَ فِي حالٍ يُمَتِّعُهُ

عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً

فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ

عَل اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا

جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ

وَإِن تُنلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ

فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-