أصناف الأخطاء العروضية في الشعر الحر

أصناف الأخطاء العروضية في الشعر الحر




الأخطاء الشائعة في شعر التفعيلة

نحاول هنا أن نصنف الأخطاء العروضية التي يقع فيها الشعراء في شعرهم الحر وندرسها دراسة قصيرة بمقدار ما يتسع المقام، مستعينين في ذلك بالأمثلة.

وقد رأيت، بعد دراسة بطيئة متمهلة لما يُنشر من الشعر الحر، أن الأخطاء الشائعة فيه يمكن أن تصنف إلى أربعة أصناف بارزة هي:

  1.  الخلط بين التشكيلات.
  2.  الخلط بين الوحدات المتساوية شكلًا.
  3.  أخطاء التدوير.
  4.  اللعب بالقافية وإهمالها.

وسوف نقف عند كل صنف من هذه الأصناف وقفة متمهلة

أ-‌‌ الخلط بين التشكيلات:


لعلنا جميعًا، قراءً ونقادًا، وشعراء، نتفق على أن الأبيات التي تخرج عن الوزن في قصيدة ما تجرح أسماعنا وتجعلنا نضيق بالقصيدة ونرفض أن نتم قراءتها. والواقع أن هذا هو السبب الذي يجعل الجمهور يقف من الشعر الحر موقف النفور والرفض. إن هذا الشعر يحتوي على نسبة عالية من النشاز الموسيقي وأغلاط الوزن. ولذلك فإن القارئ، مهما كان ضعيف القدرة على تحسن الوزن، يشعر بالضيق حين يقرأ القصائد الحرة التي يتعثر ناظمها في الوزن.

ويكاد الخلط بين التشكيلات يكون أفظع أنواع الغلط وأكثرها شيوعًا في الشعر الحر. وأساس هذا الخطإ أن كثيرًا من الشعراء والناظمين، وأكثرهم ناشئون، قد حسبوا أن مسألة ارتكاز الشعر الحر إلى "التفعيلة" بدلًا من "الشطر" إنما تعني أن في وسع الشاعر أن يورد أية تفعيلة في ضرب القصيدة ما دام يحفظ وحدة التفعيلة في الحشو. فإذا كان ينظم قصيدة من بحر الرجز تجري هكذا:

مستفعلن مستفعلن مفعولن

ظن أن من السائغ له أن يخرج عنه إلى أية تشكيلة أخرى من تشكيلات الرجز المباحة مثل هذه:

مستفعلن مستفعلن فعلن

وهذا خطأ، كما سبق أن أوضحنا. نعم، إن التشكيلتين كلتيهما تنتميان إلى بحر الرجز، ولكن العرب لم يستعملوا أكثر من تشكيلة واحدة في القصيدة الواحدة.

وكان منشأ هذه "الكبوة" التي وقع فيها شعراؤنا المعاصرون أنهم ظنوا أن البحور الشعرية تصبح في الشعر الحر متجاوبة مع تشكيلاتها جميعًا بحيث يصح المزج بينها. وكذلك فسروا "الحرية" في هذا الشعر الجديد، وكذلك خرجوا على الأذن العربية فكان لا بد للقراء المتذوقين أن ينصرفوا عن قراءة هذا الشعرالحق أن الشاعر الأصيل الذي أرهف سمعه بالإغراق في قراءة الشعر العربي لا يمكن أن يقع في المزج بين التشكيلات في قصيدة واحدة، وإنما وقع مثل ذلك لدى شعراء موهوبين لأنهم، فيما نظن، أسكتوا صوت فطرتهم الشعرية وانساقوا مع تجديد حسبوه منطقيًّا. ولقد شجع خطأ الواحد منهم أخطاء الآخرين ونصرها، فكان الشاعر منهم يشيح عن صوت نفسه المرهفة التي تأبى عليه المزج بين المتنافر، لمجرد أن شاعرًا آخر منهم قد ارتكب ذلك المزج.

وقد تكون أسباب الخلط غير هذه لدى شعراء آخرين. إن من الشعراء المعاصرين في وطننا العربي من ينقصهم التمرين، ومنهم ناظمون لا يرتفعون إلى مستوى الشعر، وكلا الطائفتين معرضة إلى أن ترتكب الأخطاء. ونحن في عصر بات ازدراء العروض فيه يعتبر صفة ملازمة للشاعر الموهوب. وقد شاعت مثل هذه النظريات المضللة شيوعًا عظيمًا بين الناس.

وكانت نتيجة هذا كله أن الشعر الحر غص بالخلط بين التشكيلات، ووقع مثل ذلك حتى لدى شعراء مارسوا النظم بأسلوب الشطرين طويلًا مثل سليمان العيسى ونزار قباني وفدوى طوقان وهم جميعًا شعراء ذوو وزن.

 وهذه فدوى مثلًا في قصيدة لها، وزنها الرجز افتتحتها قائلة:

تحبني صديقي المقرب الأثير؟

مستفعلن مستفعلن مستفعلن فعول

وقد كان ينبغي لها، حسب قانون الأذن العربية، أن تقصر حرية القصيدة على التلاعب بعدد تفعيلات الحشو الموحدة "مستفعلن"، مع إثبات التفعيلة الأخيرة الشاذة "فعول" بحيث ترد في آخر كل شطر من القصيدةعلى أن فدوى لم تفعل ذلك. وإنما راحت تعبث بكل من الحشو والضرب، خلافًا للقاعدة العربية، فضاع الوزن وأصبحت القصيدة مجموعة من تشكيلات الرجز كما نرى من الفقرة التالية منها. وسوف نكتفي بأن نثبت تفعيلة الضرب ما دامت تفعيلة الحشو ثابتة لا تتغير وهي "مستفعلن":

وكنت في يأسي أمد خلفها اليدين

"فعولْ":

أود لو بلغتها، لمستها حقيقة

"مستفعلن":

شيئًا يُمس صدقه بالراحتين

"مستفعلان":

كانت سرابًا في سراب

"مستفعلان":

الحب عند الآخرين جف وانحصر

"فَعِلْ":

معناه في صدر وساق

"مستفعلان":

ما معنى هذا؟ أن الشاعرة قد جمعت بين أربع تشكيلات لم يجمع بينها العرب قط. وإنما كانت القصيدة الواحدة تستعمل تشكيلة واحدة لا تتعداها وحين تقع علة في ضرب القصيدة، سواء أكانت علة نقص أم علة زيادة، فإنها تتكرر بعد ذلك في كل شطر من أشطر القصيدة وتصبح قانونًا. وعلى ذلك تبدو أبيات فدوى مصابة باختلال وما من عروضي يستطيع أن يقبلها. لا بل إن فدوى نفسها، بحسها الشعري الرقيق، لو أعطت فطرتها الحكم، لشطبت هذا الخروج وأبت أن تقع فيه. والواقع أننا لا نجد له مثيلًا في قصائدها ذات الشطرين أو ذات الشطر الثابت الطول

ب-‌‌ الخلط بين الوحدات المتساوية شكلًا:


في أبيات فدوى التي نقلناها في الصفحات السابقة ورد الشطران المتجاوران التاليان:

كانت سرابًا في سراب

كانت بلا لون بلا مذاق

وقد توهمت الشاعرة أن كلمة "مذاق"، بصفتها مساوية لكلمة "سراب" في الطول، تستطيع أن ترد جوابًا لها في الشطر التالي على سبيل الإيقاع والنغم وغير ذلك مما أرادت الشاعرة في هذه القصيدة، أن تستعيض به عن القافية. وهي قد التزمت هذا عبر القصيدة كلها فكانت قوافيها: "أثير، سنين، عبور، دروب، قديم، صغار، شتاء، فقير، صغير، ظماه، حياه، نضير، عبير.. إلخ". غير أن الظرف العروضي الذي أحاطت به الشاعرة هذه القوافي يجعلها غير متناسقة ولا متساوية. والواقع أن الكلمات التي تتساوى في طولها، في واقعها اللغوي، ليست بالضرورة متساوية في داخل القصيدة، وذلك بسبب تحكم التفعيلات والأنغام. وشطرًا فدوى اللذان نسخناهما مثال على ذلك.

إن وزن الشطرين كما يلي:

كانت سرابًا في سراب

مستفعلن مستفعلان

كانت بلا لون بلا مذاق

مستفعلن مستفعلن فعولْ

وعلى هذا فإن ضرب الشطر الأول ليس هو كلمة "سراب" كما تتوهم فدوى وإنما هو قولها "بًا في سراب" الذي يساوي التفعيلة "مستفعلان" وأما ضرب الشطر الثاني فهو كلمة "مذاق" وحدها لأنها تفعيلة كاملة

إن موقع كلمة "مذاق" من التفعيلة "فعول" ليس هو موقع "سراب" من تفعيلتها "مستفعلان" وهذا يجعلهما مختلفتين بحيث لا يصح أن تتجاورا هنا وليستا قافيتين. ولقد كررت فدوى هذا الخطأ مرارًا في قصيدتها فقالت في أولها:

تحبني صديقي المقرب الأثير

أحبه يظل نسمة رخية – العبور

فكانت "الأثير" تفعيلة كاملة بينما بقيت "العبور" جزءًا من تفعيلة وجعلهما ذلك مختلفتين بحيث لم تشكلا قافية.

وهذا الخطأ، كسابقه، مألوف في الشعر الحر الذي يكتبه غير فدوى من الشعراء. ففي عين عدد "الآداب" الذي نشرت فيه قصيدة فدوى، قصيدة مضطربة الوزن، عنوانها "الممثل" كتبها مجاهد عبد المنعم مجاهد، وجاء فيها من نماذج الخلط بين الوحدات المتشابهة ظاهريًّا كثير، قال:

وعندما انتهيت من كتابته

أحسست أنني أموت في نهايته

ووزن الشطرين كما يلي

مستفعلن مستفعلن مستفعلن

مستفعلن مستفعلن مستفعلن فعل

إن قافية الشطر الأول هي كلمة "كتابته" كلها، وأما قافية الشطر الثاني فهي مقطع "يته" التي هي جزء من كلمة نهايته. وقد كان يستطيع أن يضع الكلمة الكاملة قافية لو قال مثلًا:

أحسستني قد مُت في نهايته

ومن يقلب قصائد الناشئين الحرة يجد كثيرًا من هذا الخلط المؤسف

بين الوحدات، وهو خلط ترفضه الأذن الشعرية المرهفة، كما يرفضه الناظم العروضي الممرن الذي أحسن درس العروض، فلا الموهوب يقبله ولا العارف بالعروض. أقول هذا مع تقديري لشاعرية مجاهد عبد المنعم.

والحقيقة التي لا ينبغي أن تفوتنا أن الخلط بين الوحدات المتساوية شكلًا ليس إلا جزءًا من الخلط بين التشكيلات. إن شطري فدوى ينتمي كل منهما إلى تشكيلة لأن "مستفعلن مستفعلان" تختلف كل الاختلاف عن "مستفعلن مستفعلن فعول" كما سبق أن شرحنا في موضوع التشكيلات، وكان على الشاعر، ومثلها الشاعر، أن تختار إحدى التشكيلتين وتجري عليها في القصيدة كلها وبذلك تكون الوحدتان "سراب" و"مذاق" المتساويتان في الشكل، متساويتين عروضيًّا أيضًا لوقوعهما في المكان عينه من التفعيلة. والأمر كذلك بالنسبة للكلمتين "كتابته" و"نهايته".

وفي ختام هذه الفقرة من بحثنا أحس القارئ يسألني: لماذا لم يقع أسلافنا الشعراء في مثل هذا الخلط بين الوحدات؟ ولماذا عرف هذا الداء في عصرنا؟ والجواب أن الشعر الحر أصعب من الشعر ذي الأشطر المتساوية. لأن التساوي كان يضطر الشاعر إلى أن يورد عين التفعيلات في كل شطر. فإذا بدأ القصيدة: مستفعلن مستفعلن فعول.

فإذا هذا يبقى طولًا ثابتًا لكل شطر تالٍ، فلا يستطيع الشاعر أن يخطئ. وأما الشاعر الحديث فإن ظروفه صعبة لأن من حقه أن يطيل الشطر ويقصره، وهذا يجعله أكثر تعرضًا للمزالق

ج-‌‌ أخطاء التدوير:


ما زال الجمهور العربي يشكو من أن الشعر الحر يلوح له نثرًا لا وزن له. وأحسب أن كثرة التدوير في شعر الشعراء الناشئين تساهمبنسبة عالية، في إشاعة هذا الإحساس في نفوس القراء. ويكمن سبب ذلك في جوهر التدوير نفسه. لأنه في حقيقته مد للعبارة وإطالة للشطر، فإذا كان الشاعر ضعيف السيطرة على قصيدته بالمعنى العروضي، لاح وكأن ما يقوله نثر خالٍ من الموسيقى والإيقاع.

ونحب أن نورد مثلًا. إني أسحب أول عدد أصادفه من مجلة "الآداب" فأقع فيه على قصيدة لخليل الخوري من دمشق يبدؤها قائلًا من البحرالكامل:

أنا في انتظار المعجزه

من أين؟

لا أدري! ولكني هنا ألتاث

يوجعني انتظار المعجزه

الصمت في الأغوار يزحف

يأكل الأبعاد يفترس الزمان

أصغي أكاد أحس

أحدس ما تحيك

 أنامل الصمت العميق

إن هذه الأشطر تزخر بالتدوير. هناك من الأشطر المدورة الثاني والثالث والخامس والسابع. وحيث إن الشعر الحر ذو شطر واحد كما سبق أن قررنا فإن التدوير يصبح ممتنعًا كل الامتناع فيه؛ لأن العرب لا تدور ضرب الشطر أو البيت، وإنما يدور العروض وحسب، ثم إن الحاجة إلى التدوير تنتفي أصلًا في كل شعر حر. ذلك لأن طول الشطر غير معين بحيث يستطيع الشاعر أن يضع ما يشاء من تفعيلات مستغنيًا عن التدوير. وعلى هذا الأساس كان ينبغي أن يجمع الشاعر كل شطرين مدورين معًا. وبذلك تصبح قصيدته كما يلي

أنا في انتظار المعجزه

من أين؟ لا أدري ولكني هنا ألتاث يوجعني انتظار المعجزه

الصمت في الأغوار يزحف، يأكل الأبعاد، يفترس الزمان

أصغي أكاد أحس أحدس ما تحوك أنامل الصمت العميق.

وعندما نكتبها هكذا، كما ينبغي أن تكتب وكما تفرض قواعد العروض العربي، نلاحظ أنها طويلة الأشطر في الغالب مع شيء من عدم الانسجام بين الشطر الأول القصير والأشطر الثلاثة التالية على أنها مع ذلك جميلة التعبير جارية على قواعد البحر الكامل. والمأخذ على هذه الأشطر هو كما قلنا عدم التناسق بين طولها. فأين الشطر الأول المكون من تفعيلتين من الشطر الثاني المكون من ست؟ أو من الثالث والرابع وكل منهما ذو خمس تفعيلات؟

ولا يقل سوء تأليف عن ذلك كون الشطر الثاني في حقيقته بيتًا ذا شطرين من البحر الكامل هذا وزنه:

من أين لا أدري ولكني هنا 

 ألتاث يوجعني انتظار المعجزه

متفاعلن متفاعلن متفاعلن 

 متفاعلن متفاعلن متفاعلن

ومن هذا ندرك أن الأشطر الثالثة "2 و3 و4" في أصل الشاعر لم تكن في الحقيقة إلا بيتًا واحدًا ذا شطرين. فلماذا إذن كتبه الشاعر هكذا:

من أين

لا أدري ولكني هنا ألتاث

يوجعني انتظار المعجزه؟إنه أولًا يقطع بيتًا تقطيعًا لا صلة له بالوزن، وهذا غير مقبول، فإنما التقطيع صفة يفرضها الوزن ولا يتحكم فيها سواه، ثم إن الشاعر بهذا التقطيع المتعسف يجعل أشطره مدورة في موضع لا يسوغ فيه التدوير.

ذلك فضلًا عن أن قواعد البلاغة لا تبيح أن نفصل عبارة "من أين" عن عبارة "لا أدري". وليس من غرض بياني يسوغ فصل الفعل "ألتاث" عن الفعل "يوجعني" وهما في مرتبة نحوية واحدة. ومهما كان فإن فصل العبارات عن بعضها في الشعر ينبغي ألا يكون إلا إذا اقتضته وقفة عروضية، فلا شيء سواها يستطيع تقرير فصل غير مباح. هذا مع العلم بأن بعض الفصل لا تبيحه حتى وقفة عروضية وذلك مثل الفصل بين مضاف ومضاف إليه ونحوه.

والواقع أن السادة الشعراء يرتكبون في الواقع إساءتني أولاهما: أنهم يقعون في التدوير في الشعر الحر مع أنه ممتنع فيه لأنه شعر ذو شطر واحد، وثانيتهما: أنهم بالإضافة إلى خطيئة التدوير، يقسمون الشطر إلى أشطر على أساس المعنى، مع أن الشطر في العروض وحدة موسيقية مستقلة وينبغي أن يُفْصل بينها وبين أية وحدة أخرى فصلًا ملحوظًا بترك فراغ على الورق.

هذا وأمثاله يشير إلى أن القصيدة قد أفلتت من سيطرة الشاعر المعاصر، فهي تقوده وتجري به حيث تشاء، وهو لا يملك من عدة اللغة، والعروض ما يعينه عليها. إنه غير شاعر بوحدة الشطر، تارة يبدأ شطرًا بالنصف الأخيرة من الكلمة، وتارة ينهي شطرًا بالنصف الأول من الكلمة. وأحيانًا يورد بيتًا ذا شطرين متساويين على النمط الخليلي وهو يظن أنه يكتب شعرًا حرًّا تتعدد أطوال أشطره. وتراه يكتب أبياتًا مدورة وهو يحسب أن كل شطر فيها مستقل، وأحيانًا يضع قافية في نهاية الشطر ويظن أنها هي القافية، مع أن شطره مدور بحيث يذهب نصف القافية إلى الشطر التالي فلا تعود قافية. وكل هذه الفوضى تنشأ عن وقوع الشاعر

في التدوير وهو غافل.

أليس التدوير مسألة عروضية بحتة مرتبطة بالمعنى وبالموسيقى؟ ومن قال إننا أحرار في استعماله حيث شئنا ومتى شئنا؟ لنأخذ هذه الأشطر من خليل الخوري كما كتبها هو:

آه متى يشتد عصف الريح،

عصف الريح روح البحر،

لولا الريح جف البحر، آهٍ

من يحث لنا السحاب؟

أربعة أشطر جميلة سطرها الشاعر وهو لا يدري أنها في واقعها العروضي شطر واحد لا ينفصم نهايته كلمة "السحاب". ولقد كان التدوير المتصل ثقيلًا هنا لأن المعنى كان يقتضي الوقوف بعد الاستفهام الأول "آه متى يشتد عصف الريح؟ " وكان ينبغي أن ينتهي الشطر عند آخر هذا السؤال انتهاء عروضيًّا لينسجم الوزن والمعنى كما ينبغي لهما في كل شعر جيد. وأما عبارة "عصف الريح روح البحر" فقد كان حقها أن تفصل فصلًا كاملًا عن سابقتها؛ لأنها عبارة خبرية وما قبلها استفهام يختلف عنها بلاغيًّا.

وإنما وجد التدوير لربط شطر أول لم ينته المعنى فيه بشطر تالٍ له. وهذا هو القانون في كل تدوير. وإذن فما الداع إلى أن يربط الشاعر للعبارتين "متى يشتد عصف الريح؟ " و"عصف الريح روح البحر؟ " ما من جواب منطقي سوى أنها قد تكون "ضرورة" فإن في الأمة العربية اليوم جيلًا من الأدباء والشعراء الناشئين يحسبون هدم قواعد البلاغة والنحو والعروض مظهرًا من مظاهر التجديد. ولذلك لا نجدهم يعنون بمراجعة قاموس أو مرجع في القواعد، لا بل إنهم يستخفون بالناقد الذي يعاتبهم على إهمال قاعدة أو استعمال لفظة على قايس فاسد. وليس من الضروري أن يكون خليل خوري أحد هؤلاء فإن قصيدته هذه تشير إلى قدرة تعبيرية ملحوظة

وما نتيجة كل هذا التدوير بالنسبة للقارئ الذي ليس شاعرًا؟ أنه يرتبك ولا يعرف حدود الوزن. يقرأ شطر الشاعر:

يأكل الأبعاد يفترش الزمان

أو شطره:

عصف الريح روح البحر

فلا يجد له وزنًا معروفًا، ولا يجده منطبقًا على أي بحر من بحور الشعر. فلا يكون منه إلا أن يحكم بأن هذا نثر بلا وزن. وينبغي لنا ألا نلومه. وهل الناس كلهم شعراء يعرفون حدود الأوزان؟ لا بل إن كان الشاعر لا يعين حدود الشطر فكيف ننتظر ذلك من القارئ البسيط الذي يقرأ الشعر ليجد فيه لذة ونشوة وحسب وكثيرًا ما يضيع بين حدوده؟

د-‌‌ اللعب بالقافية وإهمالها:


بدأ العرب يتخلصون من عبء القافية الموحدة ذات الرنين العالي منذ عصور بعيدة، فنشأ الموشح والبند وفنون الشعر الشعبي، ودرجت الأغاني التي تستعمل أكثر من قافية واحدة. وفي عصرنا هذا شاعت الرباعيات والثنائيات وخطط القوافي المعقدة، غير أن القافية بقيت ملكة تتحكم في الشعر فلم يخرج عنها شاعر معروف. ومضى ذلك حتى السنوات الأخيرة، بعد قيام حركة الشعر الحر واستسلام الشعراء الشباب لها بلا تريث ولا تمحيص. فلقد بدأنا مؤخرًا نقرأ قصائد لا قافية لها على الإطلاق، وارتفعت أصوات غير قليلة تنادي بنبذ القافية نبذًا تامًّا. وكان هذا صدى للشعر الغربي وهو قد عرف الشعر المرسل الذي يخلو من القافية منذ مسرح شكسبير، فكان هذا الشاعر الإنكليزي الكبير يكتب شعرًا لا قافية له في الغالب فلا يأتي بقافية إلا في خاتمة الفصل إيذانًا

بانتهائه. والشعر الغربي اليوم أغلبه بلا قافية، ومن هناك جاءتنا الفكرة فاستجاب لها بعض الشباب ومضوا في تطبيقها. على أننا لا نملك إلا أن نلاحظ أن الذين ينادون اليوم بنبذ القافية هم غالبًا الشعراء الذين يرتكبون الأخطاء النحوية واللغوية والعروضية؛ ولذلك نحشى أن تكون مناداة بعضهم بها تهربًا إلى السهولة وتخلصًا من العبء اللغوي الذي تلقيه القافية على الشاعر. وأنا أومن بأن الحرية ينبغي ألا تمنح إلا لإنسان قادر على أن يلتزم القيود وإلا أصبحت قيدًا.

على أن مسألة نبذ القافية ليست جديدة كل الجدة في الشعر الحديث، ففي ديوان الزهاوي الذي توفي حين كنا نحن صغارًا قصيدة جارية على أسلوب الشطرين، غير أنها مرسلة إرسالًا بلا قافية. قال من الطويل:

لموتُ الفتى خيرٌ له من معيشة 

 يكون بها عبئًا ثقيلًا على الناس

يعيش رخي العيش عشرٌ من الورى

 وتسعة أعشار الأنام مناكيد

أما في بني الأرض العريضة قادرٌ

 يخفف ويلات الحياة قليلا

أفي الحق أن البعض يشبع بطنه 

 وأن بطون الأكثرين تجوع

أسائلني عن غاية الخالق اسكتي 

 فما لي على هذا السؤال جوابُ

إذا حيي الإنسان صادف منكرًا 

 وإن مات لاقى منكرًا ونكيرًا

إذا قلت حقًّا خفتُ لوم مخاطبي

 وإن لم أقل حقًّا أخاف ضميري

أرى الناس، إلا من توفر عقلُهُ

 من الناس، أعداء لكل جديد

إن هذا شعر بلا قافية، وقد جمع فيه الشاعر تشكيلتين من البحر الطويل فكانت أبياته متنافرة. ولم تكن هذه من الزهاوي إلا تجربة، فلسنا نراه سار عليها في سائر شعره. ولغير الزهاوي محاولات في هذا الباب. على أن المحاولة لم تنجح وبقيت نموذجًا يشار إليه لغرابته.

ثم إن الشعراء، إن كانوا لم ينجحوا في إحداث الشعر المرسل، فإنهم نجحوا في الخروج على القافية الموحدة، فشاع في الوطن العربي شعر الزركلي والمهجريين الذي جرى على تنويع القوافي بأشكال الموشح وأشكال جديدة جميلة أضافوها هم. ومشى ذلك حتى في شعر شوقي والزهاوي والرصافي وبشارة الخوري وغيرهم كثير، حتى أصبح تنويع القوافي مألوفًا وصدرت المطولات الشعرية والمسرحيات.

ومهما يكن من فكرة نبذ القافية وإرسال الشعر فإن الشعر الحر بالذات يحتاج إلى القافية احتياجًا خاصًّا. وذلك لأنه شعر يفقد بعض المزايا الموسيقية المتوافرة في شعر الشطرين الشائع. إن الطول الثابت للشطر العربي الخليلي يساعد السامع على التقاط النبرة الموسيقية ويعطي القصيدة إيقاعًا شديد الوضوح بحيث يخفف ذلك من الحاجة إلى القافية الصلدة الرنانة التي تصوت في آخر كل شطر فلا يغفل عنها إنسان. وأما الشعر الحر فإنه ليس ثابت الطول وإنما تتغير أطوال أشطره تغيرًا متصلًّا، فمن ذي تفعيلة إلى ثانٍ ذي ثلاث إلى ثالث ذي اثنتين وهكذا. وهذا التنوع في العدد

مهما قلنا فيه، يصير الإيقاع أقل وضوحًا ويجعل السامع أضعف قدرة على التقاط النغم فيه. ولذلك فإن مجيء القافية في آخر كل شطر، سواء أكانت موحدة أم منوعة، يعطي هذا الشعر الحر شعرية أعلى ويمكن الجمهور من تذوقه والاستجابة له.

ولنقارن بين قصيدتين إحداهما مرسلة والأخرى ذات قافية، ولنلاحظ الفرق في الموسيقى والشعرية. لصلاح عبد الصبور من "الكامل":

كنا على ظهر الطريق عصابة من أشقياء

متعذبين كآلهة

بالكتب والأفكار والدخان والزمن المقيت

طال الكلام مضى المساء لجاجة، طال الكلام

وابتل وجه الليل بالأنداء

ومشت إلى النفس الملالة والنعاس إلى العيون

كانت هذه القصيدة مرسلة من دون قافية، وقد أفقدها ذلك جمال الوقع وعلو النبرة. فأين هي من قصيدة نزار قباني من "الكامل":

ولمحت طوق الياسمين

في الأرض مكتوم الأنين

كالجثة البيضاء تدفعه جموع الراقصين

ويهم فارسك الجميل بأخذه فتمانعين

وتقهقهين

"لا شيء يستدعي انحناءك، ذاك طوق الياسمين"

والحقيقة أن القافية ركن مهم في موسيقية الشعر الحر لأنها تحدث رنينًا وتثير في النفس أنغامًا وأصداء. وهي فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر، والشعر الحر أحوج ما يكون إلى الفواصل خاصة بعد أن أغرقوه بالنثرية الباردة. ولذلك يؤسفنا أن نرى الناشئين متجهين اليوم إلى نبذ القافية في شعرهم الحر. وذلك يضيف إلى نثرية ما ينظمون وضعف الموسيقى فيه. فكأن لم يكفهم أن يوردوا في شعرهم تشكيلات متنافرة، وأن يخرجوا على الوزن، وأن يتنقلوا من بحر إلى بحر، وأن يرتكبوا الأخطاء النحوية واللغوية، وأن يأتوا بالعامي والسقط، كأن لم يكفهم ذلك كله، فأهملوا القافية وهي لو يدرون سند شعرهم وحليته المتبقية



المصادر




قضايا الشعر المعاصر


نازك الملائكة





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-