درجات جودة الشعرالعربي

درجات جودة الشعرالعربي







أقسام الشعرالعربي-الشعرأربعة نماذج














النوذج الاول:جميل اللفظ وجيد المعني 


يوجد شكل من الشعر  حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل فى بعض بنى أميّة


 فى كفّه خيزران ريحه عبق 


 من كفّ أروع فى عرنينه شمم 


يغضى حياء ويغضى من مهابته


 فما يكلّم إلّا حين يبتسم 


و قد قال الفرزدق مثل ذلك في علي زين العابدين بن الحسين 
وهذا من نقل الشعراء بعضهم عن بعض ونقول اقتباس ولا نقول سرقة لان التحقق من ذلك عسير وليس موضوع البحث لم يقل فى الهيبة شىء أحسن منه.


 وكقول أوس بن حجر



أيّتها النّفس أجملى جزعا


 إنّ الّذى تحذرين قد وقعا


لم يبتدىء أحد مرثية بأحسن من هذا.


 وكقول الشاعر  أبى ذؤيب


والنّفس راغبة إذا رغّبتها


 وإذا ترد إلى قليل تقنع


 حدثنى  الرّياشىّ  عن الأصمعىّ، قال: هذا أبدع  بيت قال العرب.

 وكقول حميد بن ثور 


أرى بصرى قد رابنى بعد صحّة 


 وحسبك داء أن تصحّ وتسلما


ولم يقل فى الكبر شىء أحسن منه وكقول النّابغة 


كلينى لهمّ يا أميمة ناصب


 وليل أقاسيه بطىء الكواكب


لم يبتدىء أحد من المتقدمين بأحسن منه ولا أغرب. ومثل هذافى الشعر كثير، ليس للإطالة به فى هذا الموضع وجه، وستراه عند ذكرنا أخبار الشعراء.

 النموذج الثاني حسن اللفظ عديم المعني 


 وضرب منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتّشته لم تجد هناك فائدة فى المعنى، كقول القائل  :


ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة


 ومسّح بالأركان من هو ماسح


وشدّت على حدب المهارى رحالنا 


 ولا ينظر الغادى الذى هو رائح 


أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا


 وسالت بأعناق المطىّ الأباطح 


 هذه الألفاظ كما ترى، أحسن شىء مخارج ومطالع ومقاطع، وإننظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا  أيّام منّى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء  ، ومضى الناس لا ينتظر الغادى الرائح، ابتدأنا فى الحديث، وسارت المطىّ فى الأبطح.

وهذا يشبه ما قاله عادل إمام :(رب قوم ذهبوا إلي قوم قام القوم الأولانيين مالقوش القوم التانين خدو تاكسي ورجعوا) وهذا الصنف فى الشعر كثير.

 ونحوه قول المعلوط :


إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا 


 وشلا بعينك ما يزال معينا 


غيّضن من عبراتهنّ وقلن لى 


 ماذا لقيت من الهوى ولقينا


ونحوه قول جرير


يا أخت ناجية السّلام عليكم 


قبل الرحيل وقبل لوم العذّل


لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم 


 يوم الرّحيل فعلت ما لم أفعل 


ولا حول ولا قوة إلا بالله 


 وقول جرير


بان الخليط ولو طوّعت ما بانا 


 وقطّعوا من حبال الوصل أقرانا


إنّ العيون التى فى طرّفها حور


 قتّلننا ثمّ لم يحيين قتلانا


يصرعن ذا اللبّ حتى لا حراك به 


 وهنّ أضعف خلق الله أركانا


وهنا أعترض بشدة علي ذلك المثال لأنه في الحقيقة من الشعر الجيد وقد أصبح البيت مثلاً 


النموذج الثالث :جيد المعني ركيك اللفظ 


وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، كقول لبيد بن ربيعة 
 :

ما عاتب المرء الكريم كنفسه 


 والمرء يصلحه الجليس الصّالح


هذا وإن كان جيّد المعنى والسبك فإنّه قليل الماء والرّونق.


وكقول النابغة للنّعمان :


خطاطيف حجن فى حبال متينة 


 تمدّ بها أبد إليك نوازع



قال أبو محمّد: رأيت علماءنا يستجيدون معناه، ولست أرى ألفاظه جيادا ولا مبيّنة لمعناه، لأنّه أراد: أنت فى قدرتك علىّ كخطاطيف عقّف يمدّ بها، وأنا كدلو تمدّ بتلك الخطاطيف. وعلى أنى أيضا لست أرى المعنى جيّدا
.


وكقول الفرزدق:


والشّيب ينهض فى الشّباب كأنّه 


ليل يصيح بجانبيه نهار


 النموذج الرابع رديء اللفظ رديء المعني 



وضرب منه تأخّر معناه وتأخّر لفظه، كقول الأعشى فى امرأة:


وفوها كأقاحىّ 


 غذاه دائم الهطل


كما شيب براح با 


 رد من عسل النّحل


وكقوله 


:

إنّ محلّا وإنّ مرتحلا 


 وإنّ فى السّفر ما مضى مهلا


استأثر الله بالوفاء وبال 


 حمد وولّى الملامة الرّجلا


والأرض حمّالة لما حمّل الّل 


 هـ وما إن تردّ ما فعلا


يوما تراها كشبه أرّدية ال 


 عصب ويوما أديمها نغلا


وهذا الشعر منحول، ولا أعلم  فيه شيئا يستحسن إلّا قوله:


يا خير من يركب المطىّ ولا 


 يشرب كأسا بكفّ من بخلا


يريد أنّ كلّ شارب يشرب بكفّه، وهذا ليس ببخيل فيشرب بكفّ من بخل. وهو معنى لطيف.


وكقول الخليل بن أحمد


 العروضىإنّ الخليط تصدّع 


 فطر بدائك أوقع


لولا جوار حسان


حور المدامع أربع


أمّ البنين وأسما 


 ء والرّباب وبوزع


لقلت للرّاحل ارحل 


 إذا بدا لك أو دع


وهذا الشعر بيّن التكلّف ردىء الصنعة. وكذلك أشعار العلماء، ليس فيها شىء جاء عن إسماح وسهولة، كشعر الأصمعىّ، وشعر ابن المقفّع، وشعر الخليل، خلا خلف الأحمر، فإنّه كان أجودهم طبعا وأكثرهم شعرا.

ولو لم يكن فى هذا الشعر إلا «أمّ البنين» و «بوزع» لكفاه
 فقد كان جرير أنشد بعض خلفاء بنى أميّة قصيدته التى أوّلها:


بان الخليط برامتين فودّعوا 


 أو كلّما جدّوا لبين تجزع


كيف العزاء ولم أجد مذ بنتم 


 قلبا يقرّ ولا شرابا ينقع


وهو يتحفّز ويزحف من حسن الشعر  حتّى إذا بلغ إلى قوله:



وتقول بوزع قد دببت على العصا 


 هلّا هزئّت بغيرنا يا بوزع!


قال له: أفسدت شعرك بهذا الاسم، وفتر.


 
 قال أبو محمّد: وقد يقدح فى الحسن قبح اسمه، كما ينفع القبيح حسن اسمه، ويزيد فى مهانة الرجل فظاعة اسمه  ، وتردّعدالة الرجل بكنيته  ولقبه. ولذلك قيل: اشفعوا بالكنى، فإنّها شبهة.

 وتقدّم رجلان إلى شريح، فقال أحدهما: ادع أبا الكويفر ليشهد، فتقدّم شيخ فردّه شريح ولم يسأل عنه، وقال: لو كنت عدلا لم ترض بها. وردّ آخر يلقّب أبا الذّبّان ولم يسأل عنه.

 وسأل عمر رجلا أراد أن يستعين به على أمر عن اسمه واسم أبيه، فقال: ظالم بن سرّاق، فقال: تظلم أنت ويسرق أبوك! ولم يستعن به.

 وسمع عمر بن عبد العزيز رجلا يدعو رجلا : يا أبا العمرين، فقال: لو كان له عقل كفاه أحدهما ومن هذا الضرب قول الأعشى  :


وقد غدوت إلى الحانوت يتبعنى 


 شاو مشلّ شلول شلشل شول


وهذه الألفاظ الأربعة فى معنى واحد، وكان قد يستغنى بأحدها عن جميعها وماذا يزيد هذا البيت أن كان للأعشى أو ينقص؟

  قول أبى الأسد، وهو من المتأخرين الأخفياء



ولائمة لامتك يا فيض فى النّدى


 فقلت لها: لن يقدح اللّوم فى البحر


أرادت لتثنى الفيض عن عادة النّدى 


 ومن ذا الّذى يثنى السّحاب عن القطر


مواقع جود الفيض فى كلّ بلدة 


 مواقع ماء المزن فى البلد القفر


كأنّ وفود الفيض حين تحمّلوا 


 إلى الفيض وافوا عنده ليلة القدر


 وهو القائل 


ليتك آذنتنى بواحدة 


 تكون لى منك سائر الأبد


تحلف ألّا تبرّنى أبدا 


 فإنّ فيها بردا على كبدى


إن كان رزقى إليك فارم به 


 فى ناظرى حيّة على رصد


 ومن هذا الضرب أيضا قول المرقّش  :


هل بالدّيار أن تجيب صمم 


 لو أنّ حيّا ناطقا كلم


يأبى الشّباب الأقورين ولا


 تغبط أخاك أن يقال حكم 


والعجب عندى من الأصمعى، إذ  أدخله فى متخيّره  ، وهو شعر ليس بصحيح الوزن، ولا حسن الرّوىّ، ولا متخيّر اللفظ، ولا لطيف المعنى ولا أعلم  فيه شيئا يستحسن إلّا قوله:


النّشر مسك والوجوه دنا 


 نير وأطراف الأكفّ عنم


ويستجاد منه قوله


ليس على طول الحياة ندم 


 ومن وراء المرء ما يعلم


 وكان الناس يستجيدون للأعشى قوله :


وكأس شربت على لذة 


 وأخرى تداويت منها بها


حتى قال أبو نواس:


دع عنك لومى فإنّ اللّوم إغراء


 وداونى بالتى كانت هى الدّاء


فسلخه وزاد فيه معنى آخر، اجتمع له به الحسن فى صدره وعجزه، فللأعشى فضل السّبق إليه، ولأبى نواس فضل الزيادة فيه 

 وقال الرشيد للمفضّل الضبىّ:اذكر لى بيتا جيد المعنى يحتاج إلى مقارعة الفكر فى استخراج  خبيئه ثمّ دعنى وإيّاه. فقال له المفضّل: أتعرف بيتا أوّله أعرابى فى شملته، هابّ من نومته، كأنّما صدر عن ركب جرى فى أجفانهم الوسن فركد، يستفزّهم بعنجهيّة  البدو، وتعجرف الشّدو، وآخرهمدانىّ رقيق، قد غذّى بماء العقيق؟

قال: لا أعرفه، قال: هو بيت جميل بن معمر:


ألا أيّها الرّكب النيام ألا هبّوا 


ثمّ أدركته رقّة المشوق فقال:


أسائلكم : هل يقتل الرّجل الحبّ؟


قال: صدقت، فهل تعرف أنت الآن بيتا أوّله أكثم بن صيفىّ فى أصالة الرأى  ونبل العظة، وآخره إبّقراط فى معرفته  بالداء والدواء؟ قال المفضّل:

قد هوّلت علّى، فليت شعرى بأىّ مهر تفترع عروس هذا الخدر؟ قال:

بإصغائك وإنصافك، وهو قول الحسن بن هانئ:


دع عنك لومى فإنّ اللّوم إغراء 


 وداونى بالّتى كانت هى الدّاء


 قال أبو محمّد: وسمعت بعض أهل الأدب يذكر  أنّ مقصّد القصيد إنّما ابتدأ فيها بذكر الديار والدّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرّبع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها 

 إذ كان نازلة العمد فى الحلول والظّعن على خلاف ما عليه نازلة المدرلانتقالهم  عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبّعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدّة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعى به إصغاء الأسماع إليه .

 لأنّ التشبيب  قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله فى تركيب العباد من محبّة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلّقا منه بسبب، وضاربا فيه بسهم، حلال أو حرام. 

فإذا علم أنّه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقّب بإيجاب الحقوق، فرحل فى شعره، وشكا النّصب والسّهر، وسرى الليل وحرّ الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنّه قد أوجب على صاحبه حقّ الرجاء، وذمامة التأميل، وقرّر عنده ما ناله من المكاره فى المسير، بدأ فى المديح، فبعثه على المكافأة، وهزّه للسّماح ، وفضّله على الأشباه، وصغّر فى قدره الجزيل.

 فالشاعر المجيد من سلك هذه الأسالب، وعدّل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيملّ السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمآء إلى المزيد.

 فقد كان بعض الرّجّاز أتى نصر بن سيّار والى خراسان لبنى أميّة فمدحه بقصيدة، تشبيبها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: والله ما بقّيت كلمة عذبة ولا معنى لطيفا إلّا وقد شغلته عن مديحى بتشبيبك، فإن أردت مديحى فاقتصد فى النسيب، فأتاه فأنشده:


هل تعرف الدّار لأمّ الغمر 


 دع ذا وحبّر مدحة فى نصر


فقال نصر: لا ذلك ولا هذا ولكن بين الأمرين.


 وقيل لعقيل بن علّفة : ما لك لا تطيل الهجاء؟


فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.


 وقيل لأبى المهوّش الأسدى  : لم لا تطيل الهجاء؟


فقال: لم أجد المثل السائر إلّا بيتا واحدا.


وليس لمتأخّر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدّمين فى هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر، أو يبكى عند مشيّد البنيان، لأنّ المتقدّمين وقفوا على المنزل الدائر، والرسم العافى.

 أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأنّ المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير. أو يرد على المياه العذاب الجوارى، لأنّ المتقدّمين وردوا على الأواجن الطّوامى.

 أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأنّ المتقدّمين جروا على قطع منابت الشيخ والحنوة والعرارة  قال خلف الأحمر: قال لى شيخ من أهل الكوفة: أما عجبت من الشاعر قال:


أنبت قيصوما وجثجاثا


فاحتمل له، وقلت أنا:


أنبت إجّاصا وتفّاحا


فلم يحتمل لى؟


 وليس له أن يقيس على اشتقاقهم، فيطلق ما لم يطلقوا.


 قال الخليل بن أحمد : أنشدنى رجل:


ترافع العزّ بنا فارفنععا


فقلت. ليس هذا شيئا، فقال: كيف جاز للعجّاج أن يقول:


تقاعس العزّ بنا فاقعنسس
ا 

ولا يجوز لى؟ 


من الشعراء المتكلّف والمطبوع :


 فالمتكلّف هو الذى قوّم شعره بالثّقاف، ونقّحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهير والحطيئة. وكان الأصمعىّ يقول: زهير والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر، لأنهم نقّحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين. وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولىّ المنقح المحكّك.

وكان زهير يسمّى كبر قصائده الحوليّات وقال سويد بن كراع، يذكر تنقيحه شعره  :



أبيت بأبواب القوافى كأنّما 


 أصادى بها  سربا من الوحش نزّعا


أكالئها حتّى أعرس بعد ما 


 يكون سحيرا أو بعيد فأهجعا


إذا خفت أن تروى علىّ رددتها 


 وراء التّراقى خشية أن تطلّعا


وجشّمنى خوف ابن عفّان ردّها 


 فثقّفتها حولا جريدا ومربعا 


وقد كان فى نفسى عليها زيادة 


 فلم أر إلّا أن أطيع وأسمعا


 وقال عدىّ بن الرّقاع 


وقصيدة قد بت أجمع بينها 


 حتّى أقوّم ميلها وسنادها


نظر المثقّف فى كعوب قناته 


 حتّى يقيم ثقافه منآدها


 وللشعر دواع تحث البطىء وتبعث المتكلّف، منها الطمع ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب.

 وقيل للحطيئة، أىّ الناس أشعر ؟ فأخرج لسانا دقيقا كأنّه لسان حيّة، فقال: هذا إذا طمع.

 وقال أحمد بن يوسف الكاتب لأبى يعقوب الخريمىّ: مدائحك لمحمّد ابن منصور بن زياد، يعنى كاتب البرامكة، أشعر من مراثيك فيه وأجود؟ فقال:

كنّا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون بعيد

 وهذه عندى قصّة الكميت فى مدحه بنى أميّة وآل أبى طالب، فإنّه كان يتشيّع وينحرف عن بنى أميّة بالرأى والهوى، وشعره فى بنى أميّة أجود منه فى الطالبيين، ولا أرى علة ذلك إلّا قوّة أسباب الطمع وإيثار النفس لعاجل الدنيا على آجل الآخرة.

 وقيل لكثيّر: يا أبا صخر كيف تصنع  . إذا عسر عليك قول الشعر؟

قال: أطوف فى الرّباع المخلية والرياض المعشبة، فيسهل على أرصنه، ويسرع إلىّ أحسنه.

 ويقال أيضا إنّه لم يستدع شارد الشعر بمثل الماء الجارى والشرف العالى والمكان الخضر الخالى.

 وقال الأحوص

وأشرفت فى نشز من الأرض يافع 


 وقد تشعف الأيفاع من كان مقصدا


وإذا شعفته الأيفاع مرته واستدرتّه.


 وقال عبد الملك بن مروان لأرطاة بن سهيّة: هل تقول الآن شعرا؟

فقال: كيف أقول وأنا ما أشرب ولا أطرب ولا أغضب، وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه 

 وقيل للشّنفرى حين أسر: أنشد، فقال: الإنشاد على حين المسرّة  ، ثم قال 


فلا تدفنونى إنّ دفنى محرّم 


 عليكم ولكن خامرى أمّ عامر


إذا حملوا رأسى وفى الرأس أكثرى


 وغودر عند الملتقى ثمّ سائرى 


هنالك لا أرجو حياة تسرّنى 


 سمير الليالى مبسلا بالجرائر 


 وللشعر تارات  يبعد فيها قريبه، ويستصعب فيها ريّضه.

وكذلك الكلام المنثور فى الرسائل والمقامات والجوابات، فقد يتعذّر على الكاتب الأديب وعلى البليغ الخطيب. ولا يعرف لذلك سبب  ، إلّا أن يكون من عارض يعترض على الغريزة من سوء غذاء أو خاطر غمّ.

 وكان الفرزدق يقول: أنا أشعر تميم عند تميم ، وربما أتت علىّ ساعة ونزع ضرس أسهل علىّ من قول بيت.

وللشعر أوقات يسرع فيها أتيّه، ويسمح فيها أبيّه. منها أوّل الليلقبل تغشّى الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة فى الحبس  والمسير.

ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكتاب.

 وقالوا فى شعر النابغة الجعدىّ: خمار بواف ومطرف بآلاف 

 ولا أرى غير الجعدىّ فى هذا الحكم إلّا كالجعدىّ، ولا أحسب أحدا من أهل التمييز والنظر ، نظر بعين العدل وترك طريق التقليد، يستطيع أن يقدّم أحدا من المتقدّمين المكثرين على أحد إلّا بأن يرى الجيّد فى شعره أكثر من الجيّد فى شعر غيره.

ولله درّ القائل: أشعر الناس من أنت فى شعره حتّى تفرغ منه.

 وقال العتبى: أنشد مروان بن أبى حفصة لزهير فقال: زهير أشعر الناس، 

ثمّ أنشد للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثمّ أنشد لامرئ القيس فكأنما سمع به غناء على شراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس.

 وكل علم  محتاج إلى السماع. وأحوجه إلى ذلك علم الدين، ثمّ الشعر، لما فيه من الألفاظ الغريبة، واللّغات المختلفة، والكلام الوحشىّ وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه. فإنّك لا تفصل فى شعر الهذليّين إذا أنت لم تسمعه بين شابة وساية وهما موضعان .


 ولا تثق بمعرفتك فى حزم نبايع  وعروان الكراث  ، وشسّى عبقر  ، وأسد حلية وأسد ترج ، ودفاق ، وتضارع  ، وأشباه هذا لأنّه لا يلحق بالذكاء والفطنة، كما يلحق مشتقّ الغريب.

وقرئ يوما على الأصمعىّ فى شعر أبى ذؤيب:


بأسفل ذات الدّير أفرد جحشها


فقال أعرابىّ حضر المجلس للقارئ: ضلّ ضلالك أيها القارئ ! إنّما هى ذات الدّبر وهى ثنيّة عندنا  ، فأخذ الأصمعىّ بذلك فيما بعد.

 ومن ذا من الناس يأخذ من دفتر شعر المعذّل بن عبد الله فى وصف الفرس:


من السّحّ جوّالا كأنّ غلامه 


 يصرّف سبدا فى العنان عمرّدا 


إلّا قرأه سيدا يذهب إلى الذئب، والشعراء قد تشبه الفرس بالذئب، وليست الرواية المسموعة عنهم إلّا سبدا .


 قال أبو عبيدة:

المصحّفون لهذا الحرف كثير، يروونه سيدا أى ذئبا ، وإنّما هو سبد بالباء معجمة بواحدة، يقال فلان سبد أسباد أى داهية دواه.

 وكذلك قول الآخر:


زوجك يا ذات الثّنايا الغرّ


 الرّتلات والجبين الحرّيرويه 


المصحّفون والآخذون عن الدفاتر «الرّبلات» وما «الربلات» من الثنايا والجبين؟! وهى أصول الفخذين، يقال: «رجل أربل» إذا كان عظيم الرّبلتين،أى عظيم الفخذين ، وإنّما هى «الرّتلات» بالتاء، يقال: «ثغر رتل» إذا كان مفلّجا .

وليس كلّ الشعر يختار ويحفظ على جودة اللفظ والمعنى، ولكنّه قد يختار ويحفظ على أسباب  :

 منها الإصابة فى التشبيه، كقول القائل فى وصف القمر:


بدأن بنا وابن اللّيالى كأنّه 


 حسام جلت عنه القيون صقيل


فما زلت أفنى كلّ يوم شبابه 


 إلى أن أتتك العيس وهو ضئيل


 وكقول الآخر فى مغنّ:


كأنّ أبا الشّموس إذا تغنّى 


 يحاكى عاطسا فى عين شمس 


يلوك بلحيه طورا وطورا 


 كأنّ بلحيه ضربان ضرس


 وقد يحفظ ويختار على خفّة الرّوىّ، 


كقول الشاعر 


يا تملك يا تملى 


 صلينى وذرى عذلى


ذرينى وسلاحى ث


 مّ شدّى الكفّ بالغزل 


ونبلى وفقاها كع 


 راقيب قطا طحل 


ومنّى نظرة بعدى 


 ومنّى نظرة قبلى 


وثوباى جديدان 


 وأرخى شرك النّعل 


وإمّا متّ يا تملى 


 فكونى حرّة مثلى 


وهذا الشعر ممّا اختاره الأصمعىّ بخفّة رويّه .


 وكقول الآخر :


ولو أرسلت من حب 


 ك مبهوتا من الصّين 


لوافيتك قبل الصّب 


 ح أو حين تصلّين 


وكان يتمثّل بهذا كثيرا، وقال: المبهوت من الطير الّذى يرسل من بعد قبلأن يدرج  .

وقد يختار ويحفظ لأنّ قائله لم يقل غيره، أو لأنّ شعره قليل عزيز، كقول عبد الله بن أبىّ بن سلول المنافق  :


متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل 


 تذلّ ويعلوك الّذين تصارع


وهل ينهض البازى بغير جناحه 


 وإن قصّ يوما ريشه فهو واقع


وقد يختار ويحفظ لأنّه غريب فى معناه، كقول القائل فى الفتى:


ليس الفتى بفتى لا يستضاء به 


 ولا يكون له فى الأرض آثار


 وكقول آخر فى مجوسىّ:


شهدت عليك بطيب المشاش 


 وأنّك بحر جواد خضم


وأنّك سيّد أهل الجحيم 


 إذا ما تردّيت فيمن ظلم


قرين لهامان فى قعرها 


 وفرعون والمكتنى بالحكم 


 وقد يختار ويحفظ أيضا لنبل قائله، كقول المهدىّ:


تفّاحة من عند تفّاحة 


 جاءت فماذا صنعت بالفؤاد


والله ما أدرى أأبصرتها 


 يقظان أم أبصرتها فى الرّقاد


 وكقول الرّشيد:


النّفس تطمع والأسباب عاجزة 


والنّفس تهلك بين اليأس والطّمع


 وكقول المأمون فى رسول:


بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة 


 وأغفلتنى حتّى أسأت بك الظّنّاونا


جيت من أهوى وكنت مقرّبا 


 فياليت شعرى عن دنوّك ما أغنى 


وردّدت طرفا فى محاسن وجهها 


 ومتّعت باستماع نغمتها أذنا


أرى أثرا منها بعينيك لم يكن 


 لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا 


وكقول عبد الله بن طاهر:


أميل مع الذّمام على ابن عمّى 


 وأحمل للصّديق على الشّقيق


وإن ألفيتنى ملكا مطاعا 


 فإنّك واجدى عبد الصّديق


أفرّق بين معروفى ومنّى 


 وأجمع بين مالى والحقوق


وهذا الشعر شريف بنفسه وبصاحبه.



وكقوله:


مدمن الإغضاء موصول 


 ومديم العتب مملول


ومدين البيض فى تعب 


 وغريم البيض ممطول


وأخو الوجهين حيث وهى


 بهواه فهو مدخول


وكقول إبراهيم بن العبّاس لابن الزّيّات 
 :

أبا جعفر عرّج على خلطائكا


وأقصر قليلا من مدى غلوائكا


فإن كنت قد أوتيت فى اليوم 


 فإنّ رجائى فى غد كرجائكا


 والمتكلّف من الشعر وإن كان جيّدا محكما فليس به خفاء على ذوى العلم، لتبيّنهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكّر، وشدّة العناء، ورشح الجبين، وكثرة الضرورات، وحذف ما بالمعانى حاجة إليه، وزيادة ما بالمعانى غنى عنه. كقول الفرزدق فى عمر بن هبيرة لبعض الخلفاء 
 :

أولّيت العراق ورافديه 


فزاريّا أحذّ يد القميص


يريد: أولّيتها خفيف اليد، يعنى فى الخيانة، فاضطرّته القافية إلى ذكر القميص ورافداه: دجّلة والفرات .

 وكقول الآخر:


من اللّواتى والتى والّلاتى 


 زعمن أنى كبرت لداتى


 وكقول الفرزدق



وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع 


 من المال إلّا مسحتا أو مجلّف


فرفع آخر البيت ضرورة، وأتعب أهل الإعراب فى طلب العلّة  ، فقالوا وأكثروا، ولم يأتوا فيه بشىء يرضى  . ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أنّكلّ ما أتوا به من العلل احتيال وتمويه؟! وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه إيّاه فشتمه وقال: علىّ أن أقول وعليكم أن تحتجّو وقد أنكر عليه عبد الله بن إسحق الحضرمىّ من قوله 


مستقبلين شمال الشّأم تضربنا 


 بحاصب من نديف القطن منثور 


على عمائمنا تلقى، وأرحلنا 


على زواحف تزجى مخّها رير


مرفوع، فقال: ألّا قلت: 


 على زواحف نزجيها محاسير؟


فغضب وقال:


فلو كان عبد الله مولى هجوته 


 ولكنّ عبد الله مولى مواليا 


وهذا كثير فى شعره على جودته.


 وتتبيّن التكلّف فى الشعر أيضا بأن ترى البيت فيه مقرونا بغير جاره، ومضموما إلى غير لفقه، ولذلك قال عمر بن لجإ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك، قال: وبم ذلك؟ فقال: لأنى أقول البيت وأخاه، ولأنّك تقول البيت وابن عمّه.

 وقال عبد بن سالم لرؤبة: مت يا أبا الجحّاف إذا شئت! فقال رؤبة:
وكيف ذلك؟ قال: رأيت ابنك عقبة ينشد شعرا له أعجبنى، قال رؤبة نعم، ولكن ليس لشعره قران. يريد أنّه لا يقارن البيت بشبهه  وبعض أصحابنا يقول قرآن بالضم، ولا أرى الصحيح إلّا الكسر وترك الهمز على ما بيّنت.

 والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافى، وأراك فى صدر بيته عجزه، وفى فاتحته قافيته، وتبيّنت على شعره رونق الطبع ووشى الغريزة، وإذا امتحن لم يتلعثم ولم يتزحّر  .

وقال الرّياشىّ حدّثنى أبو العالية عن أبى عمران المخزومى قال:
أتيت مع أبى واليا على المدينة من قريش، وعنده ابن مطير  ، وإذا مطر جود، فقال له الوالى، صفه ، فقال: دعنى حتى أشرف وأنظر، فأشرف ونظر: ثمّ نزل فقال:


كثرت لكثرة قطره أطباؤه 


 فإذا تحلّب فاضت الأطباء
 

وكجوف ضرّته التى فى جوفه 


 جوف السّماء سبحلة جوفاء 


وله رباب هيدب، لرفيفه 


 قبل التّبعّق ديمة وطفاء


 وكأنّ بارقه حريق، يلتقى 


 ريح عليه وعرفج وألاء 


وكأنّ ريّقه، ولمّا يحتفل 


 ودق السّماء، عجاجة كدراء


مستضحك بلوامع، مستعبر


 بمدامع لم تمرها الأقذاء


فله بلا حزن ولا بمسرّة 


 ضحك يؤلّف بينه وبكاء


حيران متّبع صباه تقوده


 وجنوبه كنف له ووعاء


ودنت له نكباؤه حتّى إذا 


 من طول ما لعبت به النّكباء


ذاب السّحاب فهو بحر كلّه 


 وعلى البحور من السّحاب سماء


ثقلت كلاه فنهّرت أصلابه 


 وتبعّجت من مائه الأحشاء


غدق ينتّج بالأباطح فرّقا 


 تلد السّيول وما لها أسلاء


غرّ محجّلة، دوالح ضمّنت


 حمل اللّقاح، وكلّها عذراء


سحم فهنّ إذا كظمن فواحم 


 سود، وهنّ إذا ضحكن وضاء


لو كان من لجج السّواحل ماؤه 


 لم يبق من لجج السّواحل ماء



قال أبو محمد: وهذا الشعر، مع إسراعه فيه كما ترى، كثير الوشى لطيف المعانى.


وكان الشّماخ فى سفر مع أصحاب له  ، فنزل يحدو بالقوم فقال:


لم يبق إلا منطق وأطراف 


 وريطتان وقميص هفهاف


وشعبتا ميس براها إسكاف
 

 يا ربّ غاز كاره للإيجاف


أغدر فى الحىّ برود الأصياف 


 مرتجة البوص خضيب الأطراف



ثم قطع به هذا الروىّ وتعذّر عليه، فتركه وسمح بغيره على إثره، فقال:

لمّا رأتنا واقفى المطيّات 


قامت تبدّى لى بأصلتيّات


غرّ أضاء ظلمها الثّنيّات 


 خود من الظّعائن الضّمريّات


حلّالة الأودية الغوريّات 


 صفىّ أتراب لها حييّات


مثل الأشاءات أو البرديّات 


 أو الغمامات أو الوديّات


أو كظباء السّدر العبريّات


 يحضنّ بالقيظ على ركيّات


وضعن أنماطا على زربيّات 


 ثمّ جلسن بركة البختيّات


من راكب يهدى لها التّحيّات 


 أروع خرّاج من الدّاويّات


يسرى إذا نام بنو السّريّات


 قال أبو عبيدة: اجتمع ثلاثة من بنى سعد يراجزون بنى جعدة، فقيل لشيخ من بنى سعد: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوما إلى الليل لا أفثج  وقيل لآخر: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوما إلى الليل ولا أنكف  ، وقيل للثالث: ما عندك؟ قال: أرجز بهم يوما إلى الليل ولا أنكش ، فلما سمعت بنو جعدة كلامهم انصرفوا ولم يراجزوهم.

 والشعراء أيضا فى الطبع مختلفون: منهم  من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء. ومنهم من يتيسّر له  المراثى ويتعذّر عليه الغزل.

وقيل للعجّاج: إنك لا تحسن الهجاء؟ فقال: إنّ لنا أحلاما تمنعنا من أن نظلم، وأحسابنا تمنعنا من أن نظلم، وهل رأيت بانيا لا يحسن أن يهدم ؟

 وليس هذا كما ذكر العجاج، ولا المثل الذى ضربه للهجاء والمديح بشكل، لأنّ المديح بناء والهجاء بناء، وليس كلّ بان بضرب بانيا بغيره .

ونحن نجد هذا بعينه فى أشعارهم كثيرا. فهذا ذو الرّمّة، أحسن الناس تشبيها، وأجودهم تشبيبا، وأوصفهم لرمل وهاجرة وفلاة وماء وقراد وحيّة، فإذا صار إلى المديح والهجاء خانه الطبع. 


وذاك أخّره عن الفحول، فقالوا: فى شعره أبعار غزلان ونقط عروس! وكان الفرزدق زير نساء وصاحب غزل، وكان مع ذلك لا يجيد التشبيب.

 وكان جرير عفيفا عزهاة عن النساء  ، وهو مع ذلك أحسن الناس تشبيبا، وكان الفرزدق يقول: ما أحوجه مع عفّته إلى صلابة شعرى، وما أحوجنى إلى رقّة شعره لما ترون









حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-