الشعر الحر والجمهور

الشعر الحر والجمهور



رأي الجمهور في الشعر الحر



لعل تاريخ الشعر العربي لم يعرف هزة أكبر من تلك التي تعرض لها وهو يواجه حركة الشعر الحر التي بدأت تنتشر انتشارها الجارف منذ سنة 1952، مع أن أولياتها تعود إلى سنة 1947، فقد جاء هذا الشعر بتجديد كامل في النظرة إلى وزن الشعر فنقل الأساس فيه من الشطر إلى التفعيلة، ومن نظام الشطرين الاثنين والقافية الموحدة، إلى نظام الشطر الواحد والقافية المتغيرة. ومع أن الحركة كانت قائمة على أساس راسخ من العروض العربي، ببحوره وأشطره وقوافيه، إلا أن الجمهور العربي قد تكشف عن مقاومة مستمرة صريحة لها، فلم يرض أن يتقبل هذا الشعر الجديد، ولا أن يحاول فهمه، وما زالت أغلب الأوساط الأدبية والفكرية تتحدث عنه بازدراء وسخرية. ولقد ألفنا في السنين الماضية أن نرى أنصار الشعر الحر يقابلون تحفظ الجمهور بالثورة وبحملات السباب والتجريح بشكل يوجع ضمير أي مراقب رصين للموقف. ذلك أن الجمهور العربي الذي يرفض هذا الشعر الحر لا يعدو أن يكون أحد اثنين، إما أنه متأخر في ثقافته ووعيه الشعري والأدبي وذوقه عن شعرائه الشباب بحيث لا يستطيع أن يصل إلى فهم حركة جديدة ما زالت تبدو له غامضة، وإما أنه محق في رفضه لهذا الشعر لسبب وجيه ما. وفي الحالتين لا ينبغي لنا أن نتهجم على الجمهور. فإن كان الحق معنا، وكان جمهورنا الذي نكتب له متأخرًا عنا، فإن واجبنا أن نعلمه لا أن نسبه ونهينه ونهاجم مقدساته، وأما إذا كان الجمهور على حق، فماذا علينا أكثر من أن نرى الحق ونقره، ولو كان ضدنا؟ إن الشعر العربي ينبغي أن يكون أعز علينا من أي تجديد غالط وقعنا فيه.

على أن من حسن الحظ أن الظروف أقل قسوة من هذين الطرفين اللذين ذكرناهما، فلا الجمهور العربي متأخر إلى هذا الحد المؤس، ولا الشعر الحر صادم للروح العربية والأذن العربية، وإنما يقوم موقف الجمهور منه على تداخل عوامل عديدة بعضها خارجي وبعضها يتصل بكل حركة مجددة تقابل جمهورًا ذا تراث قديم أصيل، وبعضها يرجع إلى أغلاط يقع فيها الشعراء أنفسهم.

ومهما يكن من أمر فقد حاولت في هذا البحث أن أدرس الأسباب التي جعلت الجمهور العربي يقف من الشعر الحر موقف المقاوم، وقد صح لديَّ، بعد طول التأمل، أن السبب في ذلك يرجع إلى ثلاثة أصناف من العوامل

  1.  العوامل التي تتصل بطبيعة الشعر الحر، واختلافها عن طبيعة أسلوب الشطرين الشائع في الشعر العربي.
  2.  العوامل التي تنشأ من ظروف الشعر العربي في هذه الفترة التي ولد فيها الشعر الحر، وهي عوامل تسببها ملابسات في جونا الأدبي سندرسها.
  3.  عوامل تنشأ عن إهمال الشعراء الذين ينظمون الشعر الحر، وعدم عنايتهم بتهذيب شعرهم، وقلة معرفتهم بالشعر العربي، وضعف أسماعهم الموسيقية.

وسوف ندرس كل مجموعة من هذه العوامل في فصل خاص

-1-‌‌ طبيعة الشعر الحر:


لا ريب في أن السبب الرئيسي في مقاومة الجمهور العر بي للشعر الحر يكمن في كون هذا الشعر خارجًا على أسلوب الوزن الذي ألفه العرب. وكل جديد يقابل في أوله بالمقاومة والرفض، فليس الشعر الحر بدعًا في هذا. ولقد كان طبيعيًّا أن يضيق به القراء حين جوبهوا به أول مرة سنة 1947.

وأكاد أعتقد أن أغلب القراء -وبينهم أدباء وحتى شعراء أحيانا- ما زالوا لا يملكون فكرة واضحة عن معنى الشعر الحر، فهل هو شعر بلا وزن؟ أم أنه وزن ما يخالف أوزان الشعر العربي؟ وإنما يحس بهذه الحيرة، على الخصوص، أولئك الذين لا يملكون أسماعًا مرهفة تميز وزن الشعر تمييزًا دقيقًا، وهؤلاء قد ألفوا، قبلُ، أن يروا الأوزان مرصوصة، على شطرين متساويين، بحيث يكون تبين موسيقاها أسهل. ولذلك تاهوا وتعبوا حين أصبحت الأشطر غير متساوية في أطوالها، وعاد الارتكاز إلى التفعيلة بحيث يحتاج الأمر إلى شاعر لكي يتبين الإيقاع والموسيقى

كان القراء يقرءون البحر الكامل "الوافي" وهو مكتوب هكذا:

قلبي يحدثني بأنك مُتلفي 

 روحي فداكَ عرفت أم لم تعرف

لم أقضِ حق هوالك إن كنت الذي 

 لم أقضِ فيه أسى ومثلي من يفي

ما لي سوى روحي وباذل نفسه

 في حب من يهواه ليس بمسرف

فلئن رضيت بها فقد أسعفتني 

 يا خيبة المسعى إذا لم تُسعف1

متفاعلن متفاعلن متفاعلن 

 متفاعلن متفاعلن متفاعلن

وكانوا يقرءون مجزوء الكامل وهو مكتوب على النحو التالي:

ولقد دخلت على الفتا 

 ة الخدر في اليوم المطير

الكاعب الحسناء تر

 فل في الدَمْقس وفي الحرير

فدفعتها فتدافعت

 مشي القطاة إلى الغدير

متفاعلن متفاعلن 

 متفاعلن متفاعلاتن

وكانوا يقرءون مشطور الكامل وهو يعادل شطرًا واحدًا منه. وكانوا يتقبلون ذلك كله لمجرد أن كل صنف منه معزول عن الصنف الآخر، فلا تكون القصيدة إلا وافية أو مجزوءة أو مشطورة دون أن تخلط بين هذه الأصناف 

وجاء الشاعر الحديث فرأى الرابطة بين وافي البحر ومجزوئه ومشطوره قائمة واضحة لأن هذه الأوزان كلها ذات تفعيلة واحدة هي متفاعلن، وهي كلها تنتمي إلى البحر الكامل، وإنما الفرق بينها في عدد "متفاعلن" وحسب، فهي تتكرر في الوافي ست مرات وفي المجزوء أربعًا وفي المشطور ثلاثًا. وقد لاحظ الشاعر أنه إذا وحد الضرب، استطاع أن يجمع مجزوء البحر ومشطوره وأجزاءهما في القصيدة الواحدة لأن عدد مرات التكرار لا يؤثر في الموسيقى شيئًا ما دامت التفعيلة واحدة والضرب واحدًا، ولذلك رأى أن يمزج بين الأطوال كلها في قصيدة واحدة. وكان ذلك طبيعيًّا وموسيقيًّا على أجمل ما يمكن.

والواقع أن الشعر الحر جارٍ على قواعد العروض العربي، ملتزم لها كل الالتزام، وكل ما فيه من غرابة أنه يجمع الوافي والمجزوء والمشطور والمنهوك جميعًا. ومصداق ما نقول أن نتناول أية قصيدة جيدة من الشعر الحر ونعزل ما فيها من مجزوء ومشطور ومنهوك، فلسوف ننتهي إلى أن نحصل على ثلاث قصائد جارية على الأسلوب العربي دون أية غرابة فيها.

ولنأت بمثال لما نقول. من قصيدة "إلى العام الجديد" من البحر "الكامل":

يا عام لا تقرب مساكننا فنحن هنا طيوف

من عالم الأشباح ينكرنا البشر

ويفر منا الليل والماضي ويجهلنا القدر

ونعيش أشباحًا تطوف

نحن اللذين نسير لا ذكرى لنا

لا حُلْمَ، لا أشواق تشرق، لا مُنى

آفاق أعيننا رماد

تلك البحيرات الرواكد في الوجوه الصامته

ولنا الجباه الساكته

لا نبض فيها لا اتقاد

نحن العراة من الشعور ذوو الشفاه الباهته

الهاربون من الزمان إلى العدم

الجاهلون أسى الندم

نحن الذين نعيش في ترف القصور

ونظل ينقصنا الشعور

لا ذكريات

نحيا ولا تدري الحياة

نحيا ولا نشكو ونجهل ما البكاء

ما الموت ما الميلاد ما معنى السماء

ولنفرز أشطر هذه القصيدة ونجزئها إلى الأطوال التي يعزلها العروض العربي، فلسوف نحصل على ثلاث قصائد جارية على السلوب العربي حق الجريان. وهذه أولها، وهي من مجزوء الكامل ذي الشطرين:

يا عام لا تقرب مسا 

 كننا فنحن هنا طيوف

ويفر منا الليل والـ 

 ـماضي ويجهلنا القدر

تلك البحيرات الروا

 كد في الوجوه الصامته

نحن العراة من الشعو

 ر ذوو الشفاه الباهته

متفاعلن متفاعلن

 متفاعلن متفاعلن

أما القصيدة الثانية فهي من المشطور وهذا نصها:

نحن الذين نسير لا ذكر ى لنا

لا حُلْم لا أشواق تشرق لا مُنَى

من عالم الأشباح ينكرنا البشر

الهاربون من الزمان إلى العدم

نحن الذين نعيش في ترف القصور

نحيا ولا نشكو ونجهل ما البكاء

ما الموت ما الميلاد ما معنى السماء

متفاعلن متفاعلن متفاعلن

وهناك قصيدة ثالثة نستطيع استخلاصها ذات وزن أقصر هو المنهوك.

ونعيش أشباحًا تطوف

آفاق أعيننا رماد

ولنا الجباه الساكته

لا نبض فيها لا اتقاد

ونظل ينقصنا الشعور

نحيا ولا تدري الحياة

إن هذه القصائد كلها من البحر الكامل وتفعيلتها جميعًا واحدة هي "متفاعلن" وهي إنما تجتمع في الشعر الحر لأن ذلك لا يخرج على النغم الذي تقبله الأذن العربية، وكل ما هنالك أنه أسلوب يتيح للشاعر تعبيرية أعلى يمنحه الفرصة لإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضيات المعنى. وليس يمكن أن يرفض الاعتراف بوزن ذلك شاعر ذو سمع مرهف. وإنما جاءت الضجة من القراء كما أسلفنا، وقد حسب بعضهم أن الشعر الحر نثر اعتيادي لا وزن له إطلاقًا. وليس أفظع غلطًا من هذا الحكم، كما رأى القارئ مما سبق. وإنني لأخجل حين أرى أحيانًا شعراء معروفين من الجيل السابق يصرحون في الصحف بأن الشعر الحر نثر. إن مثل هذه التصريحات الواقعة مؤلمة، ليس لأنها تؤثر في مستقبل الشعر الحر -ذلك لأنها لا تؤثر فيه- وإنما لأنها تشير إلى الارتجالية التي يكتب بها أدباؤنا، وإلى قلة تشخيصهم لمسئوليتهم في توجيه جمهور يتطلع إليهم ملتمسًا التوجيه. والواقع الذي نحب أن نعود فنؤكده أنه ما من عارف بالشعر على الإطلاق يمكن أن يرضى لنفسه أن يقول إن الشعر الحر نثر لا شعر. وإنما يقول ذلك من لا معرفة له، أية معرفة، بالشعر العربي والعروض العربي. فليتحرج أي أديب كبير من الأحكام الارتجالية. إن الجيل الطالع سيكون أكثر معرفة بالعروض من أن تفوت عليه مثل هذه الأحكام الفاسدة

-2-‌‌ الظروف الأدبية للعصر:


كان أسلوب كتابة الشعر العربي يمنحه شكلًا معينًا يساعد القارئ غير الشاعر على أن يدرك، في يسر وسهولة أن هذا شعر لا نثر. فما يكاد الشاعر يكتب الموزون، بأسلوب الشطرين، حتى يدرجه هكذا:

يا حسرة ما أكاد أحملها 

 آخرها مزعج وأولها

عليلة بالشآم مفردة 

 بات بأيدي العدى معللها

تسأل عنا الركبان جاهدة 

 بأدمع ما تكاد تمهلها

وإذا نظم الرجز أدرجه هكذا:

قَد عَلِمَ الأبناءُ مَن غلامُها

إذا الصراصيرُ اقشَعَرَّ هامُها

أنا ابنُ هيجاها معي زمامُها

لم أَنبُ عنها نبوةً أُلامُها

من طولِ ما جرَّبني أيامُها

ولا تُرى حانيةً أرحامُها

وليلة قد بِتُّ ما أنامُها

أحييتُها حتى انجلى ظلامُها

وكان وزن الشعر يبيح هذا الأسلوب في الكتابة فيستقل الشطر أو البيت "شطران بينهما فسحة" على سطر واحد يترك سائره خاليًا. وإنما كان هذا في الأصل إشعارًا للقارئ بأن هذا شعر، وإلا فقد كان ينبغي ألا تترك في الأسطر فراغات، تمامًا كما نفعل حين نكتب النثر.

وجاء الشعر الحر جاريًا على أساليب الشعر العربي، فراح الشاعر يكتب كل شطر من أشطره على سطر، سواء أكان شطرًا طويلًا أم قصيرًا، كما في هذه الأشطر من "المتقارب":

وكنا نسميه، دون ارتياب، طريق الأمل

فما لشذاه أفل؟

وفي لحظة عاد يُدعى طريق الملل؟

وإنما يترك الشاعر سطرًا، مثل الثاني في هذه الأسطر، خاليًا لأن "فما لشذاه أفل" كانت شطرًا كاملًا له وزن وضرب وقافية، وكان هذا الشطر مستقلًّا عن الشطرين اللذين جاءا قبله وبعده، فمن حقه أن يُخص بسطر يفرد له، على الأسلوب العربي. وهذه هي القاعدة في الشعر الحر، فهو يقطع على أسطر بحسب وزنه، كلما انتهى منه شطر

بدأ سطر جديد. وهذا كفيل بأن يساعد القارئ على تشخيص شعريته وتمييزه عن النثر حق التمييز.

على أن الشعر الحر سرعان ما وقع في إشكال عسير خاصة بالنسبة لأولئك القراء الذين يعتمدون في إدراك الشعر على شكل كتابته لأنهم لا يحسنون فهم الوزن ولا يعرفون العروض. ذلك أن هؤلاء القراء بدءوا يخلطون بين هذا الشعر الحر الموزون وبين نثر عادي لا وزن له أصبح الأدباء يكتبونه ويقطعونه على أسطر دون أي مبرر أدبي.

وهذا النثر الذي يغتصب لنفسه شكل الشعر يجري في اتجاهين اثنين:

1- الترجمات العربية للقصائد الأوروبية وغيرها.

2- ما يسمونه بـ "قصيدة النثر" وهي نثر طبيعي خال من الوزن ومن الإيقاع اختاروا أن يسموه قصيدة.

وسوف ندرس كل صنف من هذين فيما يلي:

أ- الترجمات النثرية للشعر الأجنبي:


شاعت في جونا الأدبي ظاهرة كتابة النثر العربي الذي يترجم به الشعر الأجنبي مقطعًا على أسطر متتالية على سياق الترتيب في أصل القصيدة، فأصبح المترجمون يضعون مضمون كل شطر أجنبي في سطر مستقل كما يلي:

يا ملاكًا أسمر، وضاء، مستقيمًا

كمدفع يلمع في الفضاء،

سوادك يقتحم ذهني

وشعرك قاصف كالريح المصفحة التي

أمطرت على أوروبا

وأحسب أن هذا الأسلوب في كتابة الترجمة منقول في الأصل عن اللغات الأوروبية. فقد ألفنا أن نرى أدباء أوروبا الذين ينقلون قصيدة من الألمانية إلى الإنكليزية مثلًا -أو بالعكس أو غيره- يلجئون إلى كتابة النص الإنكليزي بحيث يقابل كل شطر ترجمته الحرفية. وبذلك يسهل على القارئ مقارنة الترجمة بالأصل. وأغلب ما يفعل هذا، المترجمون الدقيقون الذين يريدون لترجماتهم أن تستعمل في التدريس بالجامعات حيث تتطلب الروح العلمية ترجمات محققة دقيقة الضبط يستطيع الطلبة والباحثون أن ينتفعوا بها، وذلك هو وحده الذي يبيح للمترجم أن يضع النثر مقابل الشعر، مكتوبًا على مثل ما يكتب الشعر عليه. ولقد ساعد على ذلك أن الصيغ والتعبيرات في اللغات الأوروبية متقابلة متشابهة إلى درجة ملحوظة، خاصة بين اللغات التي تنتمي إلى أصل واحد مثل الإنكليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية، فهي كلها تنحدر من أصل لاتيني يجمع بينها ويجعل كثيرًا من قواعدها متقاربة. فكان من السائغ في هذه اللغات أن يوضع الشطر الموزون مقابل سطر من النثر يحتوي على معناه، دون أن يجد المترجم صعوبة في توزيع الألفاظ والأشطر في حدود اللغة التي يكتب بها ترجمته.

هذا في لغات أوروبا. وأما في العربية فإن الأمر أشد تعقيدًا. ذلك أن لغتنا تختلف اختلافًا كبيرًا عن اللغات اللاتينية سواء أفي صيغتها وتعابيرها أم في اشتقاقاتها ونحوها وإعرابها، وذلك بحيث إذا أراد المترجم العربي أن تكون أسطره المترجمة مقابلة للأشطر الأوروبية فلابد له أن يضحيبقواعد لغته فيفصل مثلًا بين الموصول وصلته كما فعل جبرا إبراهيم جبرا حين كتب:

وشعرك القاصف كالريح المصفحة التي

أمطرت على أوروبا

وقد يفصل بين الجار والمجرور ومتعلقهما كما في قوله:

مستقيمًا

كمدفع يلمع في الفضاء

وكان حقه أن يقول "مستقيمًا كمدفع يلمع في الفضاء" دونما فصل. على أن اعتراضنا على هذا الأسلوب في كتابة النثر يرجع في أساسه الأكبر إلى أنه ليس من حق أي نثر أن يكتب مقطعًا على أسطر. ذلك أن التقطيع هبة أعطتها اللغة العربية للشاعر وحسب. وإنما يستحقها الشاعر لأنه يكتب وحدات موسيقية موزونة، فإذا منحناه مزية على الناثر كان ذلك هو المعقول والمنطقي. إن التقطيع ملازم للشعر. تلك هي القاعدة، وقد جرى عليها تاريخنا الأدبي كله.

وأما النثر فما الذي يبرر كتابته مقطعًا؟ وإذا كان التقطيع مقبولًا في الشعر، حيث تسنده الموسيقى والوزن فيتقبله منطق الذوق، فما الذي يجعله مقبولًا في نثر عادي خال من الوزن مثل أي نثر سواه! والحق أن المرء يكره أن يقرأ شيئًا مقطعًا على أسطر بلا سبب مبرر كالوزن. ولذلك نجد أغلب الناس يرفضون قراءة الشعر الأوروبي المترجم المكتوب بهذا الشكل. وتلك خسارة فادحة، وإساءة إلى الآداب الأوروبية التي ينقلونها لنا؛ لأن من حق تلك الآداب أن تترجم إلى العربية في حدود أساليبها الجمالية المقبولة دونما خروج عن نطاقها الذوقي. وكلما كتبوا بالشكل المجلوب المصطنع الذي يستعملونه، ساهموا في حرماننا من فرصةيتذوق فيها القارئ العربي الذي يجهل اللغات الأجنبية أدبًا غنيًّا عريقًا كالأدب الأوروبي.

ومهما يكن من أمر فقد وقعت الواقعة، وشاع هذا الأسلوب الهجين في ترجمة الشعر الغربي، وألفنا أن نرى لغتنا العربية موزعة على أسطر بلا أي سبب يبرر ذلك. ولماذا تكتب قصيدة جاك بريفير هكذا:

الحمار والملك وأنا

سنكون أمواتًا غدًا

الحمار من الجوع

والملك من الضجر

وأنا من الحب

لماذا لا نكتبها كما يلي على نحو ما يكتب النثر العربي: "الحمار والملك وأنا، سنكون كلنا أمواتًا في الغد. يمو ت الحمار من الجوع، والملك من الضجر، وأموت أنا من الحب" أليس هذا أجمل وأوقع في النفس العربية التي ألفت أن يكتب نثرها بهذا الشكل؟ أولًا تكتسب قصيدة بريفير وقعًا أغنى لدينا؟ إن هذا، في لغتنا، نثر لا شعر، وعلى ذلك فإنه لا يكتسب أبعاده الحقيقية إلا إذا كتبناه كالنثر وأعطيناه صفة النثر.

وأما إذا كان المترجم حريصًا كل الحرص على صفة التقطيع، فإن عليه أن يترجم هذا الشعر الأجنبي إلى شعر عربي، بكل ما يتبع ذلك من وزن وتقفية وعاطفة وصور. فإذ ذاك سيكون التقطيع منحقه. إن صفة التقطيع ليست هبة نستطيع أن ننتحلها حين نشاء، وإنما ينبغي لمن أرادها أن يكتب كلامًا موزونًا ليكون تقطيعه مبررًا تبريرًا أدبيًّا يجعل أذواقنا تتقبله. وإنما نبيح التقطيع لمن يكتب الموزون، وإلا فنحن، بفطرتنا العربية البسيطة، نضيق بنثر يقطع على أسطر دونما وزن يسنده.

ولقد أضاف شيوع هذا الأسلوب في كتابة النثر إلى متاعب القارئ غير المختص في تذوق الشعر الحر وفهمه. ذلك أنه أصبح يرى كثيرًا من النثر المترجم مكتوبًا بأسلوب التقطيع. فكان يحسبه شعرًا حرًّا موزونًا. وحين يقرؤه ويلتمس الوزن الذي يسمع أنه ملازم للشعر الحر، يخرج بالخيبة. لأن عدم الوزن هنا ينتهي به إلى الحكم بأن الشعر الحر نثر.

ولعل هذه الظاهرة المؤسفة هي التي تجعلنا نسمع أدباء معروفين، وحتى شعراء أحيانًا، يحكمون بأن الشعر الحر نثر. فإنما يحكم كثير من هؤلاء على هذا النثر المترجم وما يشبهه مما يبدو في شكله الخارجي كالشعر الحر. وعندما ألف الأديب والقارئ أن يرى كثيرًا من النثر الجديد مكتوبًا بأسلوب التقطيع في عشرات الصحف والكتب، حسب حين رأى الشعر الحر الموزون أنه نثر مثل ذاك. والقارئ المتوسط، وحتى بعض الأدباء ليسوا شعراء إلا في النادر، ولذلك حكموا بأن الشعر الحر نثر لا وزن له ولا قافية. وكان ذلك ظلمًا فادحًا وغمطًا لحقوق شعراء ينظمون كلامًا موزونًا يجهدون له، فلا تكون مرتبتهم أعلى من مرتبة أناس آخرين يكتبون نثرًا لا جهد فيه، ويقطعونه على أسطر دونما داعٍ أدبي، ثم يعطونه للقارئ بالسعر الأدبي نفسه وربما أعلى. ومن هنا وضعت في طريق الشعر الحر أول عثرة فكبا عندها

ب- قصيدة النثر:


في لبنان قامت عدوة غريبة ناصرها بعض الأدباء وتبنتها مؤخرًا مجلة "شعر" التي راحت تدعو إليها ملحة. وكان المضمون الأساسي لهذه الدعوة كما استخلصته من مجموع ما يقولون، إن الوزن ليس مشروطًا في الشعر وإنما يمكن أن نسمي النثر شعرًا، لمجرد أن يوجد فيه مضمون معين، وعلى هذا الأساس أخذوا يكتبون النثر مقطعًا على أسطر وكأنه شعر حر، لا بل إنهم زادوا فطبعوا كتبًا من النثر وكتبوا على أغلفتها كلمة "شعر".

ولقد سموا النثر الذي يكتبونه، على هذا الشكل، باسم "قصيدة النثر" وهو اسم لا يقل غرابة وعدم دقة عن تعبير غيرهم "الشعر المنثور" ذلك بأن القصيدة إما أن تكون قصيدة وهي إذ ذاك موزونة وليست نثرًا، وإما أن تكون نثرًا فهي ليست قصيدة. فما معنى قولهم "قصيدة النثر" إذن؟

وما يهمنا في هذا الموضوع، أن نثرهم هذا، الذي يقدمونه للقراء باسم الشعر الحر قد أحدث كثيرًا من الالتباس في أذهان القراء غير المختصين فأصبحوا يخلطون بينه وبين الشعر الحر الموزون الذي يبدو ظاهريًّا وكأنه مثله. وخيل إليهم نتيجة لذلك، أن الشعر الحر نثر اعتيادي لا وزن له.

ولعل الحق مع القارئ. فكيف يتاح لإنسان لم يمنحه الله هبة العشر أن يميز الشعر الحر الموزون من "قصيدة النثر" التي تكتب، وهي نثر، مقطعة وكأنها موزونة:

ليتني وردة جورية في حديقة ما

يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهارأو حانة من الخشب الأحمر

يرتادها المطر والغرباء

ومن شبابيكي الملطخة بالخمر والذباب

تخرج الضوضاء "الكسول"

إلى زقاقنا الذي ينتج الكآبة والعيون الخضر

حيث الأقدام الهزيلة ترتفع دونما غاية في الظلام

أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة

أو صليبًا من الذهب على صدر عذراء

قلي السمك لحبيبها العائد من المقهى

وفي عينيها الجميلتين ترفرف حمامتان من بنفسج

هذا نموذج مما يسمى بـ "قصيدة النثر" وهو كما يرى القارئ نثر اعتيادي لا يختلف عن النثر في شيء. ولسوف نعود، في موضع آخر من الكتاب، إلى مناقشة هذه الدعوة من وجوهها المختلفة.

من كل ما سبق نرى أن نشوء حركة الشعر الحر في عصر الترجمة عن الشعر الأوروبي قد أساء إليها وجعل القراء غير العارفين لا يميزون بينه وبين النثر الذي يترجم به الشعر الأوروبي. وجاءت الإساءة الثانية من "الدعوة إلى قصيدة النثر" كما يسمونها، فأصبح القارئ يقرأ الشعر الحر وهو موزون فيخلط بينه وبين نثر تترجم به قصائد أجنبية، ونثر عربي اعتيادي يكتبه الأدباء مقطعًا ويسمونه في حماسة غير علمية شعرًا. وكيف يميز قارئ غير شاعر بين النماذج التالية المتشابهة ظاهريًّا؟ كيف يدري أيها هو الشعر وأيها هو النثر؟

النموذج الأول:

عندما أرنو إلى عينيك الجميلتين

أحلم بالغروب بين الجبال

والزوارق الراحلة عند المساء

وأشعر أن كل كلمات العالم طوع بناني

فهنا على الكراسي العتيقة

ذات الصرير الجريح

حيث يلتقي المطر والحب والعيون العسلية

كان فمك الصغير

يضطرب على شفتي كقطرات العطر

فترتسم الدموع في عيني

وأشعر أنني أتصاعد كرائحة الغابات الوحشية

كهدير الأقدام الحافية في يوم قائظ

النموذج الثاني:

أمس اصطحبناه إلى لجج المياه

وهناك كسرناه، بددناه في موج البحيرة

لم نبق منه آهة، لم نبق عبره

ولقد حسبنا أننا عدنا بمنجى من أذاه

ما عاد يلقي الحزن في بسماتنا

أو يخبئ الغصص المريرة خلف أغنياتنا

ثم استلمنا وردة حمراء دافئة العبير

أحبابنا بعثوا به عبر البحار

ماذا توقعناه فيها:؟ غبطة ورضى قرير

لكنها انتفضت وسالت أدمعًا عطشى حرار

وسقت أصابعنا الحزينات النغم

إنا نحبك يا ألم

النموذج الثالث:

أخبروني عن القبلة التي حرمت منها

قولوا لي شيئًا عن هذه الصحراء

التي أستمد منها أناشيدي

أخبروني عن غزالتي التي قتلوها

وزهرتي التي حرموها البستان

قولوا لي ما الذي يبرر كل هذه الآثام؟

ما الذي يبرر مائة ألف حماقة؟

مائة ألف جريمة؟

قولوا لي: لماذا يعب المرعوبون كل هذه الكحول؟

لماذا يرتعدون من الأسود الحبيسة في منفاها؟

ولكن …

قولوا لي قبل كل شيء

كيف حال الجزائر؟

إن دواء هذا أن يكتب كل نثر كما يكتب النثر، أي بملء السطر دونما ترك فراغات، لكي ينفرد الشعر بمزية الكتابة الشعرية، فيستقل كل شطر منه بسطر، ولن يضير "شعرية النثر" -التي لا أقر بوجودها وأستبقي تحفظاتي إزاء اسمها هذا- أن يكتب كما يكتب النثر. وإنما التقطيع صفة ملازمة للشعر وهو علامته الفارقة فليس لنا أن نضيعها.

على أن من الحق أن نقول إن تبعة الخلط بين الشعر الحر وغيره، لا تقع كلها على المترجمين ودعاة الشعر المنثور أو قصيدة النثر. وإنما شارك الشاعر نفسه في ذلك، وهو ما سندرسه في الفصل الثاني

-3-‌‌ إهمال الشعراء:


لم تكن طبيعة الشعر الحر ولا ظروف العصر الذي نشأ فيه هي وحدها التي أضعفت مكانته لدى الجمهور، وإنما ساهم الشاعر الذي ينظم هذا الشعر مساهمة فعالة في إشاعة الفوضى في أساليبه وتفاصيله، وفي تشويه صفحته العروضية لدى الجمهور والأدباء. وكان دور الشاعر في هذا يجري في اتجاهين اثنين:

"الأول" أنه أساء كتابة شعره، فلم يجعل الوزن أساسًا فيها، على ما كان الشاعر العربي يفعل، وإنما جعل التحكم للمعنى حينًا وللوزن حينًا آخر.

"الثاني" أنه ارتكب الأخطاء العروضية والسقطات الموسيقية عامدًا أحيانًا وغير عامد في أغلب الأحيان.

ولسوف نتناول كل فِقرة من هاتين على حدة.

أ- إساءة الكتابة:


الأصل في الشعر أن يطبع بحسب وزنه وتفعيلاته، فيقف الطابععند نهاية الشطر العروض. وهذ القانون يسري على الشعر في العالم كله، فحيثما وجد الشعر كان وزنه هو الذي يتحكم في كتابته. إننا لا نقف بحسب مقتضيات المعاني، وإنما نقف حيث يبيح لنا العروض. ولذلك كان القدماء يشطرون الكلمة شطرين لمجرد أن يقفوا في آخر الشطر كما في كلمة "اليمني" في قول الشاعر:

وبعبد المجيد شلت يدي اليمـ 

 ـنى وشلت به يمين الجود

كان أسلافنا صارمين في احترامهم للشطر وللوقف العروضية في آخره، وفي آخر البيت. ذلك مع أن شعرهم كان ذا أشطر متساوية عروضيًّا، فحتى لو أنهم رصوه دون أن يقفوا في آخر الشطر، لما أساء ذلك إلى شعرهم لمجرد أنه موزون وزنًا شطريًّا كاملًا، بحيث لا يبقى عليه خوف حتى من أن يكتب في أسطر، دونما فواصل تفصل الشطر عن الشطر. إن هذا هو ما فعله مؤلفو كتاب عن "شكسبير" أصدرته سلسلة "اقرأ" فقد كتبوا الشعر كما يلي:

"أي صديقي بروت، أصغِ لقولي: أنا هذا مرآة صدق سأبدي لك ما لم تكن ترى من خلالك. لا تظن الظنون بي يا صديقي، لست بالضاحك اللعوب مجونًا، لا ولا بالمهين أبذل حبي وولائي لكل من يلقاني. لا ولا بالذي يهش ويلقي أحسن القول للحضور رياء، فإذا ما مضوا أساء حديثًا.

إن هذا الشعر مكتوب على شكل النثر. ولكنه في الواقع نظم لا نثر؛ لأنه موزون وزنًا كاملًا وإن كانت لغته مصطنعة ركيكة، ولو كتبناه بموجب الأشطر للاح كما يلي، من البحر الخفيف 

أي صديقي بروت أصغ لقولي 

 أنا هذا مرآة صدق سأبدي

لك ما لم تكن ترى من خلالك 

 لا تظن الظنون بي يا صديقي

لست بالضاحك اللعوب مجونا 

 لا ولا بالمهين أبذل حبي

وولائي لكل من يلقاني

 لا ولا بالذي يهش ويلقي

أحسن القول للحضور رياء

 فإذا ما مضوا أساء حديثا

إنه نظم موزون لا قافية له، وقد كتبه المترجم على صورة النثر. على أن أي إنسان يتحسس الوزن حري بأن يحس بأن هذا موزون لا منثور، رغم ملامح النثر التي كتب بها.

وعندما قامت حركة الشعر الحر جاءت بتطوير بارز لشكل الشطر العربي، فلم يعد هناك طول مقنن ثابت له، وإنما أصبح ذلك وقفًا على رغبة الشاعر وطول عباراته. بات الشاعر حرًّا في أن يورد أي عدد من التفعيلات في الشطر الواحد، إذا هو حافظ على الشروط العروضية للشعر الحر. وأصبح القارئ يقرأ شعرًا ذا أشطر مختلفة الأطوال كما يلي:

بويب …

بويب …

أجراس برج ضاع في قرارة البحر

الماء في الجرار والغروب في الشجر

وتنضح الجرار أجراسًا في المطر

بلورها يذوب في أنين

"بويب يا بويب"

فيدلهم في دمي حنين

إليك يا بويب

يا نهري الحزين كالمطر

أود أو عدوت في الظلام

أشد قبضتي تحملان شوق عام

في كل أصبع كأني أحمل النذور

إليك من قمح ومن زهور

أود لو أطل من أسرة التلال

لألمح القمر

يخوض بين ضفتيك يرزع الظلال

ويملأ السلال

بالماء والأسماك والزهر


إن الوزن، في هذه القصيدة جارٍ على العروض العربي تمام الجريان، فهو من بحر الرجز، وقد أصاب التفعيلة الأخيرة فيه تغيير فتحولت "مستفعلن" إلى "فَعِل" حينًا وإلى "فعولْ" حينًا. غير أن القارئ غير المختص لا يستطيع أن يميز الأشطر من بعضها، إلا إذا نحن فصلناها له فصلًا قاطعًا ورتبناها بحسب وزنها. وذلك لأنه بدءًا، قد لا يكون يحسن الوزن

ثم إن أطوال الأشطر غير متساوية، والقافية خافتة تخلو من رنين القافية الموحدة القديمة التي تقرع السمع. ذلك فضلًا عن أن العبارة الحديثة لم تعد صارمة أو جهورية بحيث تلفت السمع كعبارات الشاعر القديم.

على أن أهم عامل يحدث اللبس في شعرنا الحديث هذا هو أن الشاعر لم يعد يتقيد بقانون استقلال الشطر أو البيت. فقد كان أسلافنا يعيبون الشاعر إذا ما نظم بيتًا له تتمة في بيت تالٍ. وكان المألوف في الشعر العربي كله أن يكون البيت تامًّا في حدود شطريه. وكان ذلك يحفظ للبيت عزلته ويعصم للقارئ من الالتباس. أما اليوم فحتى هذا الدليل ضاع من يدي القارئ، كما نرى في أشطر بدر السياب:

أود لو أطل من أسر التلال

لألمح القمر

يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال

ويملأ السلال

بالماء والأسماك والزهر

هذه خمسة أشطر تضم كلها عبارة واحدة. أي أن ثلاثة أبيات منها تشترك في عبارة واحدة.

وهناك نقطة أخرى تحدث الالتباس. أن الشاعر المعاصر مولع بالتسكين، فأكثر قوافيه ساكنة الآخر كما في هذه القصيدة التي اقتطفنا منها. فإذا تهاون الشاعر وأدمج الأشطر فإن القارئ قد يتلو القوافي مشكولة بحسب إعرابها. وبذلك يضيع الوزن كليًّا. وهذا خطأ يقع فيه الشاعر وغير الشاعر؛ لأن الشكل يفسد الوزن الذي أقامه الشاعر على سكون. وإذن فماذا يحدث لو أن الشاعر كتب أبياته بالشكل التالي مثلًا.

"أورد لو أطل من أسرة التلال لألمح القمر يطل بين ضفتيك

يرزع الظلال ويملأ السلال بالماء والأسماك الزهر" ترى هل سيكون هناك كثيرون يستطيعون أن يحزروا أن هذا شعر؟ لا أظن. ذلك أن الوزن خافت، والعبارة خالية من رنين الشعر القديم وفخامته، والشكل، حين يضاف إلى أواخر الكلمات، يقضي على الوزن. وهكذا يتحول الشعر إلى نثر ويضيع الجرس.

لذلك السبب المهم ينبغي لنا أن نتخذ الطريقة العربية في كتابه الشعر مساعدة للقارئ على تحسس الوزن فيه. إن الشطر هو الحاكم وعلينا أن نخضع له ونحن نرص شعرنا الحر على الصفحة. علينا أن نكتب الشعر الحر بحسب الأشطر، فنضع كل شطر منفردًا على سطر مستقل، كما فعل بدر شاكر السياب في قصيدته التي اقتطفنا منها. وإنما يكمن الخطر في أن يقسم الشاعر أبياته بحسب المعنى، وهو خطر يمس القارئ والشاعر معًا كما سنذكر وشيكًا. ونريد الآن أن نأتي بنموذج من الشعر المرصوص رصًّا سقيمًا لا يقوم على أساس، وإنما تلعب به أهواء فوضوية تنم عن قلة المعرفة بشئون العروض. هذه أبيات من قصيدة حرة الوزن كتبها الشاعر نصًّا على الوجه التالي:

على وجهي رمال الشك أصوات

بلا معنى. رمال تشرب الغيم المدوي

عند آفاقي فلا ذكرى أغنيها ولا

وعد على دربي، سوى ريح وعتم في

أراض جوها نار، وموت مثلما

كانت ليالينا وآتينا. أنبقى في متاه

الرمل أقدامًا تجر الجوع والحمى

بلا مأوى تجر الخيبة الكبرى: أنبقى

حفرة للريح أحداقًا رسا فيها فراغ

الهوة الكبرى، فنحن الآن لا ندري

أيبقى الكون إن متنا، أكانت هذه

الأشياء لولانا، ترى كانت

على وجهي دروب تنتهي في الغيب

في المنفى

أول وهلة، حين قرأت هذا "الكلام" لم أفهم له وزنًا معينًا كما للشعر. لقد رأيت البيت الأول من بحر الهزج.

على وجهي رمال الشك أصوات

مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن

ولكن الشطر الثالث لاح لي من بحر آخر هو بحر الرمل المحذوف:

عند آفاقي فلا ذكرى أغنيها ولا

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن

ثم حيرني الرابع فلم أعرف له وزنًا مقبولًا غير أن يكون من "الرجز"

على هذا الشكل:

وعد على دربي سوى ريح وعتم في

مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستف

وعلى هذا تكون الأشطر الأربعة الأولى قد انتقلت من "الهزج" إلى "الرمل" إلى "الرجز" وهي ثلاثة أوزان لم يجمع بينها العرب. فما معنى هذا؟ أترى الشاعر ينثر؟ أم أنه يضحك منا ويستخف بالعروض؟

وحين نعود لنقر تلك الأشطر محاولين حل لغزها نلاحظ أن فيها

فضلًا شنيعًا متواصلًا بين أشياء لا تسيغ اللغة العربية أن يفصل بينها مثل الجار والمجرور في قوله:

… ... … سوى ريح وعتم في

أراض جوها نار … ... …

فجعل حرف الجر في شطر ومجروره في شطر آخر. ومثل المضاف والمضاف إليه وقد فصلهما الشاعر بلا مبالاة في قوله:

… ... … ... أنبقى في متاه

الرمل أقدامًا تجر … الجوع والحمى

وفي قوله:

.... أحداقًا رسا فيها فراغ

الهوة الكبرى.....

ومثل الفصل بين اسم الإشارة والمشار إليه في قوله:

… ... أكانت هذه

الأشياء لولانا …

ومثل الفصل بين "مثلما" وفعلها في قوله:

… ... وموت مثلما

كانت ليالينا وآتينا..

وفوق ذلك كله ارتكب الشاعر بدء سطر بهمزة وصل وهو أمر مستحيل لأن العرب لا تبدأ بساكن قط. وقد مر مثل هذا في نموذج الفصل بين المضاف والمضاف إليه وغيره.

ويسأل الناقد الحيران نفسه: ترى لماذا يتكلف الشاعر كل هذا التصنع في لغته فيفصل بين ما لا ينفصل ويبدأ بهمزة وصل ونحو ذلك؟ إن الشاعر لا يفعل مثل هذا إلا وهو واقع في ورطة بسبب الوزن، فعل ترى ساقت هذا الشاعر ضرورة قاسية إلى أن يقسر قواعد لغتنا بهذا الشكل القبيح؟

على أن البحث ينتهي بنا إلى الخيبة. وسرعان ما يثبت لدينا أن هذا الشاعر يرتكب الإساءات إلى اللغة العربية دونما داعٍ من أي نوع. على العكس، إن قصيدته تكون أكمل وزنًا ولغة لو أنه كتبها بحسب مقتضيات استقلال الشطر. والحقيقة المرة التي ستصدمنا أن أبيات الشاعر سالمة عروضيًّا، في حقيقة الأمر، فليست هي من الهزج والرمل والرجز كما لاحت لنا، وإنما هي من "الهزج" وحده ولم يخرج الشاعر فيها عن الوزن.

كيف حدث هذا إذن؟ أترانا نحن الذين نجهل الوزن؟ الجوابُ نفي. وإنما وقعنا في الخطإ لأن الشاعر أراد لنا ذلك حين أساء رصف قصيدته. وإنما كان ينبغي له أن يكتبها بحسب إيقاع وزنها، فلا ينهي الشطر إلا ختام التفعيلة، ولا يبدأ شطرًا بنصف تفعيلة. وها نحن نشطب صورة قصيدته كما كتبها هو ونعيد رصف أشطرها بحيث يتضح فيها وزن "الهزج":

على وجهي رمال الشك أصواتٌ بلا معنى

رمال تشرب الغيم المدوي عند آفاقي

فلا ذكرى أغنيها ولا وعد على دربي

سوى ريح وعتم في أراض جوها نار

وموت مثلما كانت ليالينا وآتينا

أنبقى في متاه الرمل أقداما

تجر الجوع والحمى بلا مأوى

تجر الخيبة الكبرى

أنبقى حفرة للريح أحداقًا رسا فيها

فرغ الهوة الكبرى

فنحن الآن لا ندري أيبقى الكون إن متنا؟

أكانت هذه الأشياء لولانا؟

ترى كانت على وجهي

دروب تنتهي في الغيب، في المنفى؟

الآن بانت القصيدة سليمة سلمت من الغلط التعبيري الكامن في فصل ما لا ينفصل والبدء بساكن، وسلمت من الغلط الوزني الكامن في الانتقال من الهزج إلى الرمل إلى الرجز1 فليقارن القارئ بين هذا الكلام المعقول الجاري على بحر واحد، وبين ذلك الكلام نفسه وقد أساء الشاعر توزيعه فكأنه لا يعرف الوزن ولا يحمل عنه فكرة.

وإننا لنتساءل الآن: لم ترى كان ذلك؟ لماذا يهين شاعر ما شعره بهذا الشكل، وإذا لم يكن لديه داعٍ أدبي معقول، مثل ضرورة الوزن، فلأي سبب يمزق قواعد اللغة العربية على هذه الصورة؟ وأي ذوق عربي سليم يحتمل من الشاعر -مهما ورطته دروب الوزن- أن يأتي بمضاف في آخر الشطر، وبمضاف إليه في أول الشطر التالي؟ إن هذا، في الواقع، لا يعدو أن يكون عبثًا لا غاية له، ولا ينبغي للناقد أن يسكت عليه. إن للفوضى والقبح حدودًا.

وإنما كان هذا وأمثاله جانبًا من الأسباب التي جعلت الجمهور العربي يقف موقف النفور من الشعر الحر، فليت الشاعر الناشئ يلتفت ويكف عن عبثه هذا الذي كثرت أمثلته في شعره

ب- الغلط العروضي


يرجع جانب كبير من نفور الجمهور من الشعر الحر إلى كون الشعراء الذين ينظمون ذلك الشعر ضعيفي الأسماع بحيث يرتكبون أخطاء عروضية مشوهة وهم لا يشعرن. وأنا أكاد أجزم بأن ثمانين بالمائة من القصائد الحرة تحتوي على أغلاط عروضية من صنف لا يمكن السكوت عنه.

وهذه النسبة العالية تلفت النظر وتجعلنا نتساءل في جد حريص: لماذا يخطئ المعاصرون في الشعر الحر كثيرًا، مع أن أوزانه هي عين أوزان الشعر الخليلي الذي ينظمه هؤلاء الشعراء أنفسهم فلا يخطئون؟ والحق أنه سؤال مهم يستأهل أن نقف عنده ونفحصه. وسنرد عليه في نقط مرقومة:

"أولًا" 

ينبغي لنا أن نلاحظ أن الشعراء الذين نظموا بالأوزان القديمة لا يخلون من الأخطاء العروضية، وفي وسعنا أن نملأ صفحات كثيرة بأغلاط شعراء لا يصدق القارئ أنهم يخطئون. هذا مثلًا بيت من الطويل لعلي محمود طه:

وأصغى إليه الضوء في صفو جذلان

وأضفى على الوادي شعاع حنان

وهو بيت لا يستوي وزن شطريه اللذين يجريان كما يلي:

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن

فعولن مفاعيلن فعولُ فعولن

أو أنهما يجمعان بين تشكيلتين للبحر الطويل لم يجمع بينهما العربوليس الغلط مقصورًا على علي محمود طه. فلمحمود حسن إسماعيل أخطاء مثلها هذا مثال منها، من الخفيف:

طعنة من معاذ أخرس فوها 

 فاك بعدما كنت تنهي وتأمر

وشطره الثاني مكسور كسرًا لا يجبر لأنه خارج على الوزن.

وهذا صالح جودة في ديوانه "ليالي الهرم" قال من "الخفيف":

ارفعيه عن الثرى كما رفع الله إلى خلده نبي الصليب

وإنما يستقيم البيت لو حذفنا كلمة "كما" التي يتوقف عليها المعنى ولنزار قباني في أوائل حياته الشعرية من البحر السريع:

لعنتِ من صفراء جاحدة 

 ماذا تمنيت ولم أفعل

ابن ثمانين رضيت به 

 لتغرقي في الذهب المثقل

إن في عروض هذين البيتين زحافًا قبيح الوقع من الصنف الذي نحاسب عليه شعراء الشعر الحر.

ولغير هؤلاء الشعراء غلطات كثيرة ليس هذا مجال ذكرها. ومن ذلك نرى أن الخطأ ليس مقصورًا على الشعر الحر وإنما يقع في سواه أيضًا، وقد تكون جذور أخطاء الشعراء الجدد كامنة في أخطاء أسلافهم من شعراء الشطرين. فلا يبنغي لنا أن نحاسب المعاصرين المتحررين وحدهم، ولاينبغي أن نعد الغلط ظاهرة ملازمة للشعر الحر حيث نبيح لأنفسنا أن نطرد هذا الشعر من حظيرة الشعر العربي.

"ثانيًا" 

ومع ذلك فإن الغلط في الشعر الحر أكثر منه في شعر الشطرين بشكل واضح يلفت النظر. إننا قد نجد خطأ عروضيًّا في قصيدة واحدة من عشر في أسلوب الشطرين، في حين نجده في ثمان من عشر في الأوزان الحرة. وهذه نسبة غير هينة تجعل الغلط في الشعر الحر ظاهرة متمكنة ينبغي أن تخص بالملاحظة.

والسبب الأكبر في هذه الحقيقة هو أن الشعر الحر أصعب من شعر الشطرين. وذلك واضح لكل من يعرف العروض العربي ولو معرفة بسيطة. إن القصيدة العربية التي تستعمل بحر الرمل بأسلوب الشطرين تأتينا بثلاث تفعيلات في كل شطر فلا تتعدى ذلك. ويكون كل شطر من الأشطر مساويًا في الطول لكل شطر آخر. وإذ ذاك يكون التعثر نادرًا وملحوظًا فلا يفوت الشاعر ولا الناقد ولا القارئ. ذلك أن موسيقى الشطر ترن في السمع لمجرد أنها تتكرر دونما تغيير في كل شطر.

ولكن ماذا يكون حال الشاعر، وهو ينظم قصيدة من بحر الرمل هذا، على الوزن الحر؟ إن الشطر هنا لم يعد يساوي الشطر في الطول وإنما يضع الشاعر شطرًا ذا تفعيلتين إلى جوار آخر ذي أربع. ومن ثم فإنه يحتاج إلى مزيد من اليقظة والتنبه لكي يضبط الوزن ويسيطر على الموسيقى. ولذلك يحتاج من يتصدى لنظم الشعر الحر إلى أن يكون ممرنًا تمرينًا عظيمًا على استعمال الأوزان ذات الشطرين بكل تشكيلاتها بحيث يصبح استعمال التفعيلات لديه يسيرًا، وبحيث ترن الموسيقى في كيانه رنينًا عفويًّا يميزه حق التمييز. وهذا ليس يسيرًا. فليس كل شعرائنا موهوبين. ليسوا كلهم ممرنين على النظم تمرينا يجعل دروب الأوزان واضحة في أذهانهم. ومن ثم فإن أسلوب الشطرين أهون على هؤلاء لو تأملواإن من لم يحسن أسلوب الشطرين ومجرى البحور حق الإحسان لن يعرف كيف يخرج على عدد التفعيلات أو لنقل إن من لم يعرف أن ينظم قصيدة كل أشطرها متساوية الطول لن يعرف أن ينظم قصيدة يكون شطر منها طويلًا والثاني أقصر والثالث أطول. تلك مسألة بديهية.

"ثالثًا" 

يقع جانب من اللوم، في قضية الأخطاء العروضية الشائعة في الشعر الحر، على عواتق النقاد العرب المعاصرين. ذلك أنهم رفضوا أن يقوموا بواجبهم في نقد ذلك الشعر وغربلته، وإنما كان كل ما فعلوه أنهم هاجموه بكلمات جارحة وسخروا ممن ينظمه. ولقد كتب كثير منهم باختصار واحتقار وهزء عن الحركة كلها. وكانت حدة اللهجة وعصبية العبارات، ونبرة التحامل تشي بأنهم غاضبون وأن ما يقولونه -لذلك- بعيد عن الموضوعية. وكانت النتيجة المحتومة أن الشعراء الناشئين، وبعضهم مصاب بصلف الجهل، رفضوا أن يصغوا إليهم، وزادوا بأن جابهوهم بالسباب المقابل والهجوم والسخرية. ولم يقع الحيف في هذا إلا على الشعر العربي نفسه.

ولعل أكثر اللوم في هذه المعركة اللفظية المزرية يقع على النقاد لا على الشعراء. ذلك لأن الناقد الذي يسمي نفسه ناقدًا ثم يجهل أن الشعر الحر موزون جار على العروض العربي تمام الجريان، بحيث يتعرض للزحاف والعلل والتدوير، ويرد على المشطور والمجزوء، وتكون له ضروب، هذا الناقد يحكم على نفسه بأنه ليس ناقدًا، وإنما هو واحد من أولئك البسطاء الذين لا يتورعون عن أن يدلوا بآرائهم في كل موضوع. بلى، قد يكون هذا الناقد كفئًا في نقد موضوعات أخرى غير الشعر، إلا أنه على كلٍّ ليس ناقدًا للشعر ما دام لا يميز الموزون من غير الموزون.

ولقد كانت نتيجة هذه الأحكام السطحية المتسرعة من بعض الأدباء، أن الشاعر الناشئ الذي ينظم الشعر الحر ويدري أنه شعر لا نثر، وأنه موزون بحيث يمكن أن يحاسب عليه، هذا الشاعر فقد ثقته بالناقدومعه الحق. وقد جعله ذلك يتمادى ويبالغ فلا يتنزل إلى الإصغاء إلى تصحيح مصحح. فإذا نبهه ناقد مخلص إلى خطإ عروضي، اتهمه بأنه ناقد رجعي يريد الاقتصار على أسلوب الشطرين. وانتهى الأمر إلى أن يصبح هذا الشاعر جامحًا، يخرج على العروض وعلى الموسيقى وعلى الذوق باسم "الحرية".

وهكذا انطلق الشعراء الناشئون يخطئون أفظع الأخطاء وهم يحسبون أنهم يأتون بأعظم التجديد. ومضى الناقد يسب ويهاجم ويسخر دون أن يستطيع مساعدة هؤلاء الناشئين الذين يحتاجون إلى التوجيه والرعاية والتشجيع. والحق أن بعضهم شعراء ذوو موهبة، غير أن جموحهم وعنادهم وسوء فهمهم للحرية قد ظلم مواهبهم وقطع عليهم طريق النمو والتكامل. واليوم يكاد الشعر الحر يلهث تعبًا على أيديهم.

هذه مشكلة الغلط العروضي في الشعر الحر وسوف نفرد الفصل التالي لأكثر أصناف هذا الغلط شيوعًا



المصادر


قضايا الشعر المعاصر

نازك الملائكة























حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-