التقفية والتصريع في الشعر العربي

 التقفية والتصريع في الشعر العربي

ماهو التجميع؟

التجميع  يشكل على كثير من الناس علمه، ويلحقه عيب سماه قدامة التجميع، كأنه من الجمع بين رويين وقافيتين.

 ورأيت من يقول: التخميع بالخاء كأنه من الخمع في الرجل، وسأذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى.


ماهو التصريع؟


التصريع:هو ما كانت عروض البيت فيه تابعة لضربه: تنقص بنقصه، وتزيد بزيادته، نحو قول امرئ القيس في الزيادة:


قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان 


 ورسم عفت آياته منذ أزمان


وهي في سائر القصيدة مفاعلن، وقال في النقصان:


لمن طلل أبصرته فشجاني


 كخط زبورٍ في عسيب يماني


فالضرب فعولن، والعروض مثله لمكان التصريع، وهي في سائر القصيدة مفاعلن كالأولى؛ فكل ما جرى هذا المجرى في سائر الأوزان فهو مصرع.

ماهي التقفية؟

التقفية: أن يتساوى الجزءان من غير نقص ولا زيادة، فلا يتبع العروض الضرب في شيء إلا في السجع خاصة، مثال ذلك قوله


قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل


 بسقط اللوى بين الدخول فحومل


التصريع:هو ما كانت عروض البيت فيه تابعة لضربه: تنقص بنقصه، وتزيد بزيادته-التقفية: أن يتساوى الجزءان من غير نقص ولا زيادة، فلا يتبع العروض الضرب في شيء


فهم جميعاً مفاعلن، إلا أن العروض مقفى مثل الضرب، فكل ما لم يختلف عروض بيته الأول مع سائر عروض أبيات القصيدة إلا في السجع فقط فهو مقفى.

واشتقاق التصريع من مصراعي الباب، ولذلك قيل لنصف البيت مصراع كأنه باب القصيدة ومدخلها، وقيل: بل هو من الصرعين، وهما طرفا النهار، قال أبو إسحاق الزجاج: الأول من طلوع الشمس إلى استواء النهار، والآخر من ميل الشمس عن كبد السماء إلى وقت غروبها.


 قال شيخنا أبو عبد الله: وهما العصران. وقال قوم: الصرع المثل، وسبب التصريع مبادرة الشاعر القافية ليعلم في أول وهلة أنه أخذ في كلام موزون غير منثور، ولذلك وقع في أول الشعر، وربما صرع الشاعر في غير الابتداء، وذلك إذا خرج من قصة إلى قصة أو من وصف شيء إلى وصف شيء آخر فيأتي حينئذ بالتصريع إخباراً بذلك وتنبيهاً عليه، وقد كثر استعمالهم هذا حتى صرعوا في غير موضع تصريع، وهو دليل على قوة الطبع، وكثرة المادة، إلا أنه إذا كثر في القصيدة دل على التكلف، إلا من المتقدمين، قال امرؤ القيس:


تروح من الحي أم تبتكر 


 وماذا عليك بأن تنتظر؟


أمرخ خيامهم أم عشر


 أم القلب في إثرهم منحدر


وشاقك بين الخليط الشطر


 وفيمن أقام من الحي هر   

  

فوالى بين ثلاثة أبيات مصرعة في القصيدة، وقد يجعلون أولها:


أحار بن عمرو كأني خمر


 ويعدو على المرء ما يأتمر


وقال عنترة العبسي:


أعياك رسم الدار لم يتكلم


 حتى تكلم كالأصم الأعجم


ثم قال بعد بيت واحد:


هل غادر الشعراء من متردم 


 أم هل عرفت الدار بعد توهم؟


يا دار عبلة بالجواء تكلمي


 وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي


فصرع البيت الأول والثالث والرابع.


وقولنا في شعر امرئ القيس وعنترة وغيرهما مما يستأنف مصرع إنما هو مجاز وجرى على عادة الناس؛ لئلا يخرج عن المتعارف، وإلا فقد بينت ذلك أولاً.


ومن الناس من لم يصرع أول شعره قلة اكتراث بالشعر، ثم يصرع بعد ذلك، كما صنع الأخطل إذ يقول أول قصيدة:


حلت صبيرة أمواه العداد وقد 


 كانت تحل وأدنى دارها نكد


وأقفر اليوم ممن حله الثمد


 فالشعبتان فذاك الأبلق الفرد


فصرع البيت الثاني دون الأول.. وقال ذو الرمة أول قصيدة:


أداراً بحزوى هجت للعين عبرة


 فماء الهوى يرفض أو يترقرق


ثم قال بعد عدة أبيات:


أمن مية اعتاد الخيال المؤرق؟ 


 نعم؛ إنها مما على النأي تطرق


وكان الفرزدق قليلاً ما يصرع أو يلقي بالاً بالشعر، كقوله:


ألم تر أني يوم جو سويقة 


 بكيت فنادتني هنيدة ماليا


فجاء بمثل هذه القصيدة الجليلة غير مصرعة. وكذلك قوله يرد على جرير


تكاثر يربوع عليك ومالك


 على آل يربوع فما لك مسرح


وأكثر شعر ذو الرمة غير مصرع الأوائل، وهو مذهب الكثير من الفحول وإن لم يعد فيهم لقلة تصرفه، إلا أنهم جعلوا التصريع في مهمات القصائد فيما يتأهبون له من الشعر، فدل ذلك على فضل التصريع. وقد قال أبو تمام وهو قدوة:


وتقفو إلى الجدوى بجدوى، وإنما


 يروقك بيت الشعر حين يصرع


فضرب به المثل كما ترى.


والتصريع يقع فيه من الإقواء والإكفاء والإيطاء والسناد والتضمين ما يقع في القافية: فمن الإقواء ما أنشده الزجاجي، وهو قول بعضهم:

ما بال عينك منها الماء مهراق


 سحاً فلا غارب منها ولا راقي


ومن الإكفاء قول حسان بن ثابت، وأنشده الجاحظ:

ولست بخير من أبيك وخالكا 


ولست بخير من معاظلة الكلب


ومن الإيطاء قول عبد الله بن المعتز:


يا سائلاً كيف حالي


 أنت العليم بحالي


ومن السناد قول إسماعيل بن القاسم أبا العتاهية


ويلي على الأظعان ولوا


 عني بعتبة فاستقلوا


ومن التضمين قول البحتري:


عذيري فيك من لاح إذا ما


 شكوت الحب قطعني ملاما


ومن ابتداء القصائد التجميع، وهو: أن يكون القسيم الأول متهيئاً للتصريع بقافية ما، فيأتي تمام البيت بقافية على خلافها كقول جميل:


يابثن إنك قد ملكت فأسجحي


 وخذي بحظك من كريم واصل


فتهيأت القافية على الحاء، ثم صرفها إلى اللام.

ومثله قول حميد بن ثور الهلالي:


سل الربع أنىّ يممت أم سالم؟ 


 وهل عادة للربع أن يتكلما؟!!


فتهيأت له قافية مؤسسة لو شاء، ثم أتت في آخر البيت غير مؤسسة، ويروى أم أسلما فخرج عن التجميع.

ومن أشد التجميع قول النابغة الذبياني:


جزى الله عبساً عبس آل بغيضٍ 


 جزاء الكلاب العاويات وقد فعل


وإنما التجميع فيما شابه الإطلاق، أو قارب ذلك، كقول جميل فيما تقدم وقول حميد، وهو الإكفاء والسناد وفي القوافي، إلا أنه دونهما في الكراهية جداً.. وإذا لم يصرع الشاعر قصيدته كان كالمتسور الداخل من غير باب.

والمداخل من الأبيات: ما كان قسيمه متصلاً بالآخر، غير منفصل منه، قد جمعتهما كلمة واحدة، وهو المدمج أيضاً، وأكثر ما يقع ذلك في عروض الخفيف، وهو حيث وقع من الأعاريض دليل على القوة، إلا أنه في غير الخفيف مستثقل عند المطبوعين، وقد يستخفونه في الأعاريض القصار: كالهزج ومربوع الرمل وما أشبه ذلك.


ومن الشعر غير المصرع ما لا يجوز أن يظن تجميعاً، وذلك نحو قول ذي الرمة واسمه غيلان بن عقبة:


أأن ترسمت من خرقاء منزلة


 ماء الصبابة من عينيك مسجوم


لأن القافية من عروض البيت غير متمكنة، ولا مستعمل مثلها، وإن كان استعمالها جائزاً لو وقع.

ومن الشعر نوع غريب يسمونه القواديسي، تشبيهاً بقواديس السانية؛ لارتفاع بعض قوافيه في جهة وانخفاضه في الجهة الأخرى، فأول من رأيته جاء به طلحة بن عبيد الله العوني في قوله من قصيدة له مشهورة طويلة:


كم للدمى الأبكار بال 


 خبتين من منازل


بمهجتي للوجد من


 تذكارها منازل


معاهد رعيلها 


 مثعنجر الهواطل


لما نأى ساكنها


 فأدمعي هواطل


وهو مربوع الرجز تعمد فيه الإقواء وأوطأ في أكثره قصداً كما فعل في البيتين الأولين من هذه.


ومن الشعر جنس كله مصرع، إلا أنه مختلف الأنواع، 


ما هو الشعر المسمط؟

 المسمط، وهو: أن يبتدئ الشاعر ببيت مصرع، ثم يأتي بأربعة أقسمة على غير قافيته، ثم يعيد قسيماً واحداً من جنس ما ابتدأ به، وهكذا إلى آخر القصيدة،


 مثال ذلك قول امرئ القيس، وقيل إنها منحولة!!!


توهمت من هند معالم أطلال 


 غفاهن طول الدهر في الزمن الخالي


مرابع من هند خلت ومصايف 


 يصيح بمغناها صدى وعوازف


وغيرها هوج الرياح العواصف


 وكل مسف ثم آخر رادف


بأسحم من نوء السماكين هطال


وهكذا يأتي بأربعة أقسمة على أي قافية شاء، ثم يكرر قسيماً على قافية اللام، 


     وربما كان المسمط بأقل من أربعة أقسمة كما قال أحدهم:


خيال هاج لي شجنا


 فبت مكابداً حزنا


عميد القلب مرتهنا


 بذكر اللهو والطرب


سبتني ظبية عطل


 كأن رضابها عسل


ينوء بخصرها كفل 


ثقيل روادف الحقب


وربما جاءوا بأوله أبياتاً خمسة على شرطهم في الأقسمة، وهو المتعارف، أو أربعة، ثم يأتون بعد ذلك بأربعة أقسمة، كما قال خالد القناص، أنشده الزجاجي أبو القاسم:


لقد نكرت عيني منازل جيران 


 كأسطار رق ناهج خلق فاني


توهمتها من بعد عشرين حجة 


 فما أستبين الدار إلا بعرفان


فقلت لها: حييت يا دار جيرتي


 أبيني لنا أنىّ تبدد إخواني


وأي بلاد بعد ربعك حالفوا 


 فإن فؤادي عند ظبية جيراني


فجاء بأربعة أبيات كما ترى، ثم قال بعدها:


رما نطقت واستعجمت حين كلمت 


 وما رجعت قولاً وما إن ترمرمت


وكان شفائي عندها لو تكلمت 


 إلي ولو كانت أشارت وسلمت


ولكنها ضنت علي بتبيان


وهكذا إلى آخرها، وقد جاء هذا الشاعر في قصيدته بخمسة أقسمة

مرة واحدة، ولم يعاودها، ولو عاودها لم يضره، وكذلك لو نقص، إلا أن الاعتدال أحسن.


والقافية التي تكرر في التسميط تسمى عمود القصيدة، واشتقاقه من السمط، وهو: أن تجمع عدة سلوك في ياقوتة أو خرزة ما، ثم تنظم كل سلك منها على حدته باللؤلؤ يسيراً، ثم تجمع السلوك كلها في زبرجدة أو شبهها أو نحو ذلك، ثم تنظم أيضاً كل سلك على حدته وتصنع به كما صنعت أولاً إلى أن يتم السمط، هذا هو المتعارف عند أهل الوقت.


وقال أبو القاسم الزجاجي: إنما سمي بهذا الاسم تشبيهاً بسمط اللؤلؤ، وهو سلكه الذي يضمه ويجمعه مع تفرق حبه، وكذلك هذا الشعر لما كان متفرق القوافي متعقباً بقافية تضمه وترده إلى البيت الأول الذي بنيت عليه في القصيدة صار كأنه سمط مؤلف من أشياء مفترقة.


ونوع آخر يسمى مخمساً، وهو: أن يؤتى بخمسة أقسمة على قافية، ثم بخمسة أخرى في وزنها على قافية غيرها كذلك، إلى أن يفرغ من القصيدة، هذا هو الأصل، وأكثروا من هذا الفن حتى أتوا به مصراعين مصراعين فقط، وهو المزدوج، إلا أن وزنه كله واحد وإن اختلفت القوافي، كذات الأمثال، وذات الحلل، وما شاكلهما، ولا يكون أقل من مصراعين.


وكل مشطور أو منهوك فهو بيت، وإن قيل مصرع فعلي المجاز، وما سوى ذلك مما لم يأت مثله عن العرب فهو مصاريع ليس ببيت، ولم أجدهم يستعملون في هذه المخمسات إلا الرجز خاصة؛ لأنه وطئ سهل المراجعة، فأما المسمطات فقد جاءت في أوزان كثيرة مختلفة .


ونوعان من الرجز وهما: المشطور، والمنهوك فأما المشطور فما بني على شطر بيت، نحو قول أبي النجم العجلي:


الحمد لله الوهوب المجزل


 أعطى فلم يبخل ولم يبخل


وأما المنهمك فهو ما بني على ثلث بيت، ونهك بذهاب ثلثيه، أي: أضعف وهذا مثل قول أبي نواس:


وبلدة فيها زور


 صعراء تخطى في صعر


فأشبه بهما مشطور السريع ومنهوك المنسرح.


وأنشد الزجاجي وزناً مشطراً محير الفصول لا أشك أنه مولد محدث، وهو:


سقى طللاً بحزوى


 هزيم الودق أحوى


عهدنا فيه أروى 


زماناً ثم أقوى


وأروى لا كنود 


 ولا فيها صدود


لها طرف صيود


 ومبتسم برود


لأن شط المزار


 بها ونأت ديار


فقلبي مستطار


 وليس له قرار


ستدنيها ذمول


 جلنفعة ذلول


إذا عرضت هجول


 تقصر ما يطول


وهذا وزن ملتبس: يجوز أن يكون مقطوعاً من مربع الوافر، ويجوز أن يكون من المضارع مقبوضاً مكفوفاً، ذكره الجوهري..

وأنشد لبعض المحدثين:


أشاقك طيف مامه 


 بمكة أم حمامه


أشاقك: مفاعل، وحقه في أصل الوزن مفاعيلن.

وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات ويكثرون منها، ولم أر متقدماً حاذقاً صنع شيئاً منها؛ لأنها دالة على عجز الشاعر، وقلة قوافيه، وضيق عطنه، ما خلا امرأ القيس في القصيدة التي نسبت إليه وما أصححها له، وبشار بن برد، قد كان يصنع المخمسات والمزدوجات عبثاً واستهانة بالشعر.


 وبشر بن المعتمر؛ فقد أنشد الجاحظ له أول مزدوجة، وصنع ابن المعتز قصيدة في ذم الصبوح، وقصيدة في سيرة المعتضد ركب فيها هذا الطريق؛ لما تقتضيه الألفاظ المختلفة الضرورية، ولمراده من التوسع في الكلام، والتملح بأنواع السجع.


وهذا الجنس موقوف على ابن وكيع والأمير تميم بن المعز، ومن ناسب طبعهما من أهل الفراغ وأصحاب الرخص، وقد يقع لبعض الشعراء البيتان والثلاثة لها قافية واحدة يجعلونها معاياة فيتلاقفها العروضيون.



المصادر


الكتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه


المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (ت ٤٦٣ هـ)


المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد


الناشر: دار الجيل




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-