حديث بن رشيق في أوزان الشعر العربي

حديث بن رشيق في أوزان الشعر العربي

الأوزان في الشعر العربي

الوزن أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة، إلا أن تختلف القوافي فيكون ذلك عيباً في التقفية لا في الوزن، وقد لا يكون عيباً نحو المخمسات وما شاكلها.

والمطبوع مستغن بطبعه عن معرفة الأوزان، وأسمائها، وعللها؛ لنبو ذوقاً عن المزاحف منها والمستكره. والضعيف الطبع محتاج إلى معرفة شيء من ذلك يعينه على ما يحاوله من هذا الشأن


الوزن أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة


وللناس في ذلك كتب مشهورة، وتواليف مفردة، وبينهم فيه اختلاف، وليس كتابي هذا بمحتمل شرح ذلك، ولا هو من شرطه؛ فراراً من التكرار والتطويل، ولكني أذكر نتفاً يحتاج إليها، ويكتفي بها من نظر من المتعلمين في هذا الكتاب، إن شاء الله.

الخليل بن أحمد الفراهيدي

فأول من ألف الأوزان وجمع الأعاريض والضروب الخليل بن أحمد فوضع فيها كتاباً سماه العروض استخفافاً، والعروض: آخر جزء من القسم الأول من البيت، وهي مؤنثة، وتثنى وتجمع، إلا أن يكون لهذا الجنس من العلم، والضرب: آخر جزء من البيت من أي وزن كان.

ثم ألف الناس بعده، واختلفوا على مقادير استنباطاتهم، حتى وصل الأمر إلى أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، فبين الأشياء وأوضحها في اختصار، وإلى مذهبه يذهب حذاق أهل الوقت، وأرباب الصناعة.

 فأول ما خالف فيه أن جعل الخليل الأجزاء التي يوزن بها الشعر ثمانية: منها اثنان خماسيان، وهما: فعولن، وفاعلن، وستة سباعية، وهي: مفاعيلن، وفاعلاتن، ومستفعلن، ومفاعلتن، ومتفاعلن، ومفعولات، فنقص الجوهري منها جزء مفعولات، وأقام الدليل على أنه منقول من " مستفع لن " مفروق الوتد، أي: مقدم النون على اللام؛ لأنه زعم أنه لو كان جزءاً صحيحاً لتركب من مفرده بحر كما تركب من سائر الأجزاء. يريد أنه ليس في الأوزان وزن انفرد به مفعولات، ولا تكرر في قسم منه.

 وعد الخليل أجناس الأوزان فجعلها خمسة عشر جنساً، على أنه لم يذكر المتدارك، وهي عنده: الطويل، والمديد، والبسيط، في دائرة؛ دائرة ثم الوافر والكامل في دائرة: ثم الهزج، والرجز، والرمل، في دائرة؛ ثم السريع، والمنسرح، والخفيف، والمضارع، والمقتضب، والمجتث، في دائرة. ثم المتقارب وحده في دائرة

وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاج اختلاف الناس في ألقاب الشعر؛ فحكى عن الخليل شيئاً أخذت به اختصاراً وتقليداً؛ لأنه أول من وضع علم العروض وفتحه للناس، وغادرت ما سوى ذلك من قول أبي إسحاق الزجاج وغيره لا على أن فيه تقصيراً.

ذكر الزجاج أن ابن دريد أخبره عن أبي حاتم عن الأخفش قال: سألت الخليل بعد أن عمل كتاب العروض: لم سميت الطويل طويلاً؟ قال: لأنه طال بتمام أجزائه، قلت: فالبسيط؟ قال: لأنه انبسط عن مدى الطويل وجاء وسطه فعلن وآخره فعلن، قلت: فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه حول خماسيه، قلت: فالوافر؟ قال: لوفور أجزائه وتداً بوتدٍ، قلت: فالكامل؟ قال: لأن فيه ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره من الشعر، قلت: فالهزج؟ قال: لأنه يضطرب؛ شبه بهزج الصوت، قلت: فالرجز؟ قال: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة عند القيام، قلت: فالرمل؟ قال: لأنه شبه برمل الحصير لضم بعضه إلى بعض، قلت: فالسريع؟ قال: لأنه يسرع على اللسان، قلت: فالمنسرح؟ قال: لانسراحه وسهولته، قلت: فالخفيف؟ قال: لأنه أخف السباعيات، قلت: فالمقتضب؟ قال: لأنه اقتضب من السريع، قلت: فالمضارع؟ قال: لأنه ضارع المقتضب، قلت: فالمجتث؟ قال: لأنه اجتث، أي: قطع من طويل دائرته، قلت: فالمتقارب؟ قال: لتقارب أجزائه؛ لأنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضاً.

وجعل الجوهري هذه الأجناس اثني عشر باباً، على أن فيها المتدارك: سبعة منها مفردات، وخمسة مركبات، قال: فأولها المتقارب، ثم الهزج، والطويل بينهما مركب منهما، ثم بعد الهزج الرمل، والمضارع بينهما، ثم بعد الرمل الرجز، والخفيف بينهما، ثم بعد الرجز المتدارك، والبسيط بينهما، ثم بعد المتدارك المديد، مركب منه ومن الرمل، قال: ثم الوافر والكامل، لم يتركب بينهما بحر لما فيهما من الفاصلة.

وزعم أن الخليل إنما أراد بكثرة الألقاب الشرح والتقريب، قال: وإلا فالسريع هو من البسيط، والمنسرح والمقتضب من الرجز، والمجتث من الخفيف؛ لأن كل بيت مركب من مستفعلن فهو عنده من الرجز طال أو قصر، وكل بيت ركب من مستفعلن فاعلن فهو من البسيط طال أو قصر، وعلى هذا القياس سائر المفردات والمركبات عنده. والمتدارك الذي ذكره الجوهري مقلوب من دائرة المتقارب، وذلك أن فعولن يخلفه فاعلن ويخبن فيصير فعلن، وشعر عمرو الجني منه، وهو الذي يسميه الناس اليوم الخبب.

وليس بين العلماء اختلاف في تقطيع الأجزاء، وأنه يراعى فيه اللفظ دون الخط؛ فيقابل الساكن بالساكن، والمتحرك بالمتحرك، ويظهر حرف التضعيف، وتسقط ألف الوصل ولام التعريف إذا لم تظهر في درج الكلام، وتثبت النون بدلاً من التنوين، ويعد الوصل والخروج حرفين، وهذا هو الأصل المحقق؛ لأن الأوزان إنما وقعت على الكلام، والكلام لا محالة قبل الخط؛ لأن الألف صورة هوائية لا مستقر لها، ولأن المضاعف يجعل حرفاً واحداً، ولأن التنوين شكل خفي، وليس في جميع الأوزان ساكنان في حشو بيت إلا في عروض المتقارب؛ فإن الجوهري أنشد، وأنشده المبرد قبله:

ورمنا القصاص وكان التقاص 

 فرضاً وحتماً على المسلمين

قال الجوهري: كأنه نوى الوقوف على الجزء، وإلا فالجمع بين ساكنين لم يسمع به في حشو بيت.

قال صاحب الكتاب: إلا أن سيبويه قد أنشد:

كأنه بعد كلال الزاجر

 ومسحه مر عقاب كاسر

بإسكان الحاء وإدغامها في الهاء والسين قبلها ساكنة

وجميع أجزاء الشعر تتألف من ثلاثة أشياء: سبب، ووتد، وفاصلة؛ فالسبب نوعان: خفيف، وهو متحرك بعده ساكن، نحو: ما، وهل، وبل، ومن، وثقيل، وهو متحركان، نحو: لم، وبم، إذا سألت، وقد أنكره بعض المحدثين: والوتد أيضاً نوعان: مجموع، وهو متحركان بعدهما ساكن، نحو: رمى، وسعى، ومفروق، وهو ساكن بين متحركين، نحو: قال، وباع. والفاصلة فاصلتان: صغرى، وهي ثلاث متحركات بعدها ساكن، نحو: بلغت، وما أشبه ذلك، وكبرى، وهي أربع متحركات بعدها ساكن، نحو: بلغني، وبلغنا، وما أشبه ذلك، وهي تأتي في جزء من الشعر بعينه، وهو: فعلتن، ولا تأتي البتة بإجماع من الناس بين جزءين فتكون حرفين متحركين في آخر جزء ومثلهما في أول جزء آخر يليه، ولا يجتمع في الشعر خمس متحركات البتة.

ومن الناس من جعل الشعر كله من الأوتاد والأسباب خاصة يركب بعضهما على بعض فتتركب الفواصل منهما، وبعض المتعقبين وأظنه الملقب بالحمار يسمي الفاصلتين وتداً ثلاثياً، ووتداً رباعياً، والسبب عنده نوعان: منفصل نحو من، ومتصل نحو لمن؛ فاللام عنده وحدها سبب متصل، والميم والنون سبب هو منفصل لما كان لحركة الميم نهاية وهي النون الساكنة، ولو كانت متحركة لم تكن نهاية.

وأما الزحاف فهو ما يلحق أي جزء كان من الأجزاء السبعة التي جعلت موازين الشعر من نقص أو زيادة أو تقديم حرف أو تأخيره أو تسكينه، ولا يكاد يسلم منه شعر.

ومن الزحاف ما هو أخف من التمام وأحسن، كالذي يستحسن في الجارية من التفاف البدن واعتدال القامة، مثال ذلك مفاعيلن في عروض الطويل التام تصير مفاعلن في جميع أبياته، وهذا هو القبض، وكل ما ذهب خامسه الساكن فهو مقبوض. وفاعلن في عروض البسيط التام وضربه يصير فعلن، وذلك هو الخبن، وكل ما ذهب ثانيه الساكن فهو مخبون. ومفاعلتن في عروض الوافر التام

وضربه حذفوا منه التاء والنون وأسكنوا اللام فصار مفاعل، فخلفه فعولن، وهذا هو القطف، وليس في الشعر مقطوف غيره. ويخف على المطبوع أبداً أن يجعل مكان مستفعلن في الخفيف مفاعلن يظهر له أحسن.

ومنه أعني الزحاف ما يستحسن قليله دون كثيره، كالقبل اليسير والفلج واللثغ مثال ذلك قول خالد بن زهير الهذلي لخاله أبي ذؤيب:

لعلك إما أم عمرو تبدلت 

 سواك خليلاً شاتمي تستحيرها

فنقص ساكناً بعد كاف سواك؛ وهو نون فعولن، وهذا هو القبض، ومن رواه " خليلاً سواك " قبض الياء من مفاعيلن، وهو أشد قليلاً. ومنه يحتمل على كره، كالفدع والوكع والكزم في بعض الحسان، ومثاله في الشعر كثير وكفاك قول امرئ القيس بن حجر:

وتعرف فيه من أبيه شمائلاً 

 ومن خاله، ومن يزيد، ومن حجر

سماحة ذا، وبر ذا، ووفاء ذا

 ونائل ذا: إذا صحا، وإذا سكر

فهذا أجمع العلماء بالشعر أنه ما عمل في معناه مثله، إلا أنه على ما تراه من الزحاف المستكره، حكى ذلك أبو عبيدة.

ومنه قبيح مردود لا تقبل النفس عليه، كقبح الخلق واختلاف الأعضاء في الناس وسوء التركيب، مثله قصيدة عبيد المشهورة:


فإنها كادت تكون كلاماً غير موزون بعلة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: إنها خطبة ارتجلها فاتزن له أكثرها.

وقال الأصمعي:

الزحاف في الشعر كالرخصة في الفقه، لا يقدم عليها إلا فقيه.

وينبغي للشاعر أن يركب مستعمل الأعاريض ووطيئها، وأن يستحلى الضروب ويأتي بألطفها موقعاً، وأخفها مستمعاً، وأن يجتنب عويصها ومستكرهها؛ فإن العويص مما يشغله، ويمسك من عنانه، ويوهن قواه، ويفت في عضده، ويخرجه عن مقصده.

وقد يأتون بالخرم كثيراً وهو ذهاب أول حركة من وتد الجزء الأول من البيت وأكثر ما يقع في البيت الأول، وقد يقع قليلاً في أول عجز البيت، ولا يكون أبداً إلا في وتد، وقد أنكره الخليل لقلته فلم يجزه، وأجازه الناس، أنشده الجوهري:

قدمت رجلاً فإن لم تزع 

 قدمت الأخرى فنلت القرار

وأنشد أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري لامرئ القيس

لقد أنكرتني بعلبك وأهلها 

 وابن جريح كان في حمص أنكرا

هكذا روايته، ورواه غيره ولا بن جريح بغير خرم. فإذا اجتمع الخرم والقبض على الجزء فذلك هو الثرم، وهو قبيح. وهذان عيبان تدلك التسمية فيهما على قبحهما؛ لأن الخرم في الأنف، والثرم في الفم، وإنما كانت العرب تأتي به لأن أحدهم يتكلم بالكلام على أنه غير شعر، ثم يرى فيه رأياً فيصرفه إلى جهة الشعر؛ فمن ههنا احتمل لهم وقبح على غيرهم. ألا ترى أن بعض كتاب عبد الله بن طاهر عاب ذلك على أبي تمام في قوله:

هن عوادي يوسف وصواحبه.

على أنه أولى الناس بمذاهب العرب.

ويأتون بالخزم بزاي معجمة وهو ضد الخرم بالراء غير المعجمة، الناقص منهما ناقص نقطة، والزائد زائد نقطة وليس الخزم عندهم بعيب؛ لأن أحدهم إنما يأتي بالحرف زائداً في أول الوزن، إذا سقط لم يفسد المعنى، ولا أخل به ولا بالوزن، وربما جاء بالحرفين والثلاثة، ولم يأتوا بأكثر من أربعة أحرف، أنشدوا عن علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى ورضي عنه:

اشدد حياز يمك للموت

 فإن الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت 

 إذا حل بواديكا

فزاد " اشدد " بياناً للمعنى لأنه هو المراد. قال كعب بن مالك الأنصاري يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه:

لقد عجبت لقوم أسلموا بعد عزهم 

 إمامهم للمنكرات وللغدر

فزاد " لقد " على الوزن، هكذا أنشدوه. وأنشد الزجاج وزعم أصحاب الحديث أن الجن قالته

نحن قتلنا سيد الخزر 

 ج سعد بن عباده

رميناه بسهمين 

 فلم نخط فؤاده

فزاد على الوزن " نحن " وأنشد الزجاج أيضاً:

بل لم تجزعوا يا آل حرب مجزعاً.

فزاد " بل " وأنشد أيضاً:

يا مطر بن خارجة بن مسلم إنني

 أجفى وتغلق دوني الأبواب

وإنما الوزن " مطر بن خارجة " والياء والألف زائدة.. ومما جاء فيه الخزم في أول عجز البيت وأول صدره، وهو شاذ جداً، قول طرفة:

هل تذكرون إذ نقاتلكم 

 إذ لا يضر معدماً عدمه

فزاد في أول صدر البيت " هل " وزاد في أول العجز " إذ " والبيت من قصيدته المشهورة:

أشجاك الربع أم قدمه 

 أم رماد دارس حممه

وقال جريبة بن الأشيم أنشده أبو حاتم عن أبي زيد الأنصاري:

لقد طال إيضاعي المخدم لا أرى

 في الناس مثلي من معد يخطب

حتى تأوبت البيوت عشية 

 فوضعت عنه كوره تتثاءب

فاللام في " لقد " زائدة، وصاحب هذا الشعر جاهلي قديم، 

وقالت الخنساء:

أقذىً بعينك أم بالعين عوار

 أم أوحشت إذ خلت من أهلها الدار

فزادت ألف الاستفهام، ولو أسقطتها لم يضر المعنى ولا الوزن شيئاً، وروى أن أبا الحسن بن كيسان كان ينشد قول امرئ القيس:

كأن ثبيراً في عرانين وبله.

فما بعد ذلك بالواو فيقول:

وكأن ذرى رأس المجيمر غدوة.

وكأن السباع فيه غرقى عشية.

معطوفاً هكذا؛ ليكون الكلام نسقاً بعضه على بعض وقال عبد الكريم بن إبراهيم: مذهبهم في الخزم أنه إذا كان البيت يتعلق بما بعده وصلوه بتلك الزيادة بحروف العطف التي تعطف الاسم على الاسم والفعل على الفعل والجملة على الجملة، وأخذ الخزم من خزامة الناقة، ومن شأنهم مد الصوت فجعلوه عوضاً من الخزم الذي يحذفونه من أول البيت.

وقد قال غيره:

إنما أسقطوه كأنهم يتوهمون أنه في السكتة؛ فلذلك جعلوه في الوتد المجموع؛ لأن المفروق لو أسقطوا حركته الأولى لبقي أوله ساكناً، ولا يبتدأ بالساكن، فيسقط أيضاً، والسكتة لا تحتمل عندهم إلا حرفاً واحداً؛ وهذا اعتلال مليح بين جداً.

ومن التزحيف في الأوساط الإفعاد، وهو أن تذهب مثلاً نون متفاعلن أو مستفعلن في عروض الضرب الثاني من الكامل، وتسكن اللام، فيصير عروضه كضربه فعلاتن أو مفعولن، كما قال الشاعر، وهذا هو القطع عند أصحاب القوافي:

أفبعد مقتل مالك بن زهير 

 ترجو النساء عواقب الأطهار

فجاء هذا على معنى التصريع وليس به؛ فهو عيب، وأقبح منه قول الآخر

إني كبرت وإن كل كبير

 مما يضن به علي ويقتر

لأنه أتى بالعروض دون الضرب بحرف، لا لتوهم تصريع ولا إشكال، وإنما نذكر مثل هذا ليجتنب إذا عرف قبحه. وجاء منه في الطويل قول النابغة الذبياني:

جزى الله عبساً عبس آل بغيض 

 جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

أنشده النحاس. قول ضباب بن سبيع بن عوف الحنظلي:

لعمري لقد بر الضباب بنوه

 وبعض البنين حمة وسعال

هكذا روايته بالحاء غير معجمة، وهو الصحيح، وبعضهم يرويه غمة بالغين معجمة.

وزعم الجمحي أن الإقعاد لا يجوز لمولد، وقد أتى به البحتري في عروض الخفيف فقال يهجو شاعراً:

ليس ينفك هاجياً مضروباً 

ألف حد ومادحاً مصفوعاً

قياساً على قول الحارث بن حلزة اليشكري:

أسد في اللقاء ذو أشبال 

 وربيع إن شنعت غبراء

وابن قتيبة يسمى هذا الزحاف إقواء، وسأذكره في أبواب القوافي إن شاء الله تعالى.

ومن مهمات الزحاف أربعة أشياء: ابتداء، وهو ما كان في أول البيت مما لا يجوز مثله في الحشو: كالثلم في الطويل، والعصب الوافر، والخرم في

الهزج؛ وفصل، وهو ما كان ملتزماً في نصف البيت الذي يسمى عروضاً، مثل مفاعلن في عروض الطويل، وفعلن في عروض المديد، وما جرى مجراهما، هذا هو الحقيقة، وأما ما كان من جهة التوسع والمجاز ومعنى التقريب فقد مر ذكرهما آنفاً؛ واعتماد، وهو ما كان من الزحاف الجائز في الحشو ولا مثل الجزء الذي قبل الضرب، كقول امرئ القيس:

أعنى على برق أراه وميض

 يضيء حبياً في شماريخ بيص

فأثبت ياء شماريخ وهي مكان النون من فعولن، وكان الأجود أن يسقطها بالقبض؛ لمكان الاعتماد؛ لأن السبب قد اعتمد على وتدين: أحدهما قبله، والآخر بعده، فقوى قوة ليست لغيره من الأسباب، فحسن الزحاف فيه، والاعتماد في المتقارب سلامة الجزء من الزحاف؛ وغاية، وهو ما كان في الضرب الذي هو جزء القافية ملتزماً مخالفاً للحشو: كالمقطوع والمقصور والمكسوف، والمقطوف، وهذه أشياء لا تكون في حشو البيت..

قالوا: وأكثر الغايات معتل؛ لأن الغاية إذا كانت فاعلاتن أو فعولن أو مفاعيلن فقد لزمها أن لا تحذف سواكن أسبابها؛ لأن آخر البيت لا يكون متحركاً، هذه حقيقة ما ذكر، وأما المجاز والاتساع فكثير …

ويتصل بالغايات أنواع أخر: فمن ذلك معرفة ما يلزمه حرف المد واللين الذي هو الردف مما لا يلزمه ذلك؛ أجمع حذاق أهل العلم من البصريين والكوفيين على أن كل وزن نقص من أتم بنائه حرف متحرك عوض حرف المد واللين من ذلك الحرف فلم يجيء إلا مردفاً بواو أو ياء أو ألف.

 ولا يحتسب في ذلك بما يقع للزحاف، مثل مفعولن في الخفيف. ألا ترى أنه يعاقب فاعلاتن؟ فهو لا يوجب الردف، فإن ذهب منه أكثر من حرف متحرك أو ما يقوم مقامه، وهو حرف ساكن مع حرف آخر متحرك؛ لم يلزمه الردف، وإذا التقى ساكنان ألزموه الردف: فما سقط فألزم حرف المد فعولن المحذوف في الطويل، لم يعتدوا بالنون لما يدركها من الزحاف فكأنما ذهبت اللام فقط، ومن المديد فاعلاتن المقصور، ومن البسيط فعلن المقطوع. والفرق بين القطع والقصر أن القصر في الأسباب والقطع في الأوتاد، وهما جميعاً ذهاب ساكن من آخر الجزء وحركة متحرك قبله ملاصقة. والردف إنما يكون عوضاً مما بعده لا مما قبله. ومن الكامل فعلات المقطوع، ومن الرجز مفعولن المقطوع، ومن الرمل فاعلاتن المقصور، ومن المتقارب فعولن المقصور.

ومما التقى فيه ساكنان وألزموه الردف مستفعلان المذال في البسيط، وفيه اختلاف: أما من ألزمه الردف فلالتقاء الساكنين، أقاموا المد منهما مقام الحركة؛ وأما من لم يلزمه الردف فلآنه قد تم وزيد على تمامه. والإرداف إنما يأتي عوضاً من النقصان لا من الزيادة. وفي الكامل متفاعلان المذال، وفي الرجز شاذ، أنشده أبو زهرة النحوي في كتاب العروض، وهو:

كأنني فوق أقب سهوقٍ

 جأبٍ إذا عشر صاتي الإرنان


وفي الرمل فاعلاتن وحدها، والقول فيها كالقول في مستفعلان المذال في البسيط، وفاعلات في السريع، وهو مذيل من البسيط عند الجوهري؛ فإما على ما عند من سواه فهو موقوف من مفعولات مطوية أي ساقطة الواو ومفعولات في مشطور السريع أيضاً، وفي منهوك المنسرح يلزمها حرف اللين؛ فعلى هذا إجماع الحذاق، إلا سيبويه فإنه رخص فيه لموافقة الوزن مردفاً وغير مردف، وأنشد قول امرئ القيس:

ولقد رحلت العيس ثم زجرتها 

 وهناً وقلت: عليك خير معد

وقول الراجز:

إن تمنع اليوم نساء يمنعن.

بإسكان العين والنون. وكان الجرمي والأخفش يريان هذا غلطاً من قائله، كالسناد والإكفاء، يحكى ولا يعمل به، إلا أن أبا نواس في قوله:

لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند.

أخذ يقول سيبويه، وهو قليل، والقياس الأول حسن مطرد، وهو المختار. ومن أهم أمور الغايات معرفة ما ينشد الشعر مطلقاً ومقيداً. قال أبو القاسم الزجاجي وغيره من أصحاب القوافي: الشعر ثلاثة وستون ضرباً، لا يجوز إطلاق مقيد منه إلا انكسر الشعر، ما خلا ثلاثة أضرب: أحدهما في الكامل:

أبني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير

وهذا هو الضرب السابع يسمى مذالاً، وإن شئت قلت: ولا الكبيرا فأطلقته وهو الضرب السادس منه يسمى المرفل، والضرب الثاني في الرمل وهو قول زيد الخيل

يا بني الصيداء ردوا فرسي

 إنما يفعل هذا بالذليل

وهو الضرب الثاني منه، فإن أطلقته صار أول ضرب منه، والضرب الثالث في المتقارب، أنشد الأصمعي وأبو عبيدة:

كأني ورحلي إذا زعتها 

 على جمزي جازي بالرمال

غير أن سيبويه أنشد فيما يجوز تقييده وإطلاقه:

صفية قومي ولا تعجزي

 وبكى النساء على حمزة

وهو من المتقارب: إن أطلق كان محذوفاً، وإن قيد كان أبتر. وقد أنشد أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري لعمرو بن شاس، قال: والشعر مقيد

وما بيضة بات الظليم يحفها

 إلى جؤجؤ جاف بميثاء محلال

بأحسن منها يوم بطن قراقر

 تخوض به بطن القطاة وقد سال

لطيفة طي الكشح مضمرة الحشا

 هضيم العناق هونة غير مجبال

تميل على مثل الكثيب كأنها

 نقاً كلما حركت جانبه مال

هذا شيء لم يذكره العروضيون، وهو عندهم مطلق محمول على الإقواء، كما حمل قول امرئ القيس:

أحنظل لو حاميتم وصبرتم 

لأثنيت خيراً صالحاً ولأرضان

ثياب بني عوف طهارى نقية 

 وأوجههم عند المشاهد غران

عوير ومن مثل العوير ورهطه 

 وأسعد في ليل البلابل صفوان

فقد أصبحوا والله أصفاهم به 

 أبر بأيمان وأوفى بجيران

إلا الأخفش والجرمي؛ فإنهما يرويان هذا الشعر موقوفاً، ولا يريان فيه إقواء، وهذا عند سيبويه لا بأس به.

وقد صوب الناس قول الخليل في مخالفة هذا المذهب، وأنشد بعض المتعقبين أظنه البازي العروضي:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً

 ويأتيك بالأخبار من لم تزود

بالتقييد على أنه من الضرب المحذوف المعتمد، قال: إلا أنه يدخله عيب لترك حرف اللين، وهو كثير جداً.

وليس الابتداء والفصل والاعتماد والغاية بعلل، ولكنها مواضع العلل؛ فأقيم المضاف إليه مقام المضاف. 

وأما زحاف الحشو فمن أهمه معرفة المعاقبة والمراقبة:

 فأما المعاقبة فهي أن يتقابل سببان في جزءين، فهما يتعاقبان السقوط: يسقط ساكن أحدهما لثبوت ساكن الآخر، ويثبتان جميعاً، ولا يسقطان جميعاً، والمعاقبة بين سببي جزءين من جميع الأوزان في أربعة أنواع: المديد، والرمل، والخفيف، والمجتث، وهو عند الجوهري ضرب من الخفيف، فإذا كان السبب في أول البيت أو كان قبله وتد دخله الزحاف فهو بريء من المعاقبة؛ إذ ليس قبله ما يعاقبه، ولأن الوتد لا يعاقب السبب، فإذا زوحف ثاني الجزء لمعاقبة ما بعده فهو عجز، فإن زوحف أوله لمعاقبة ما قبله وآخره لمعاقبة ما بعده فهما طرفان، وياء مفاعيلن في الطويل والهزج يعاقب نونها، وكذلك سين مستفعلن في الكامل تعاقب فاءها.

والمراقبة: أن يتقابل السببان في جزء واحد فيسقط ساكن أحدهما، ولا يسقطان جميعاً البتة، وكذلك لا يثبتان جميعاً، وهي من جميع الأوزان في المضارع والمقتضب، والجوهري يعد المقتضب من الرجز كما قدمت، فهي من المضارع في سببي مفاعيلن أعني الياء والنون إما أن يأتي مفاعيلن مقبوضاً أو مفاعيلن مكفوفاً، ومن المقتضب في سببي مفعولات أعني الفاء والواو إما أن تخبن فتصير مفاعيل وإما أن تطوى فتصير فاعلات، ولا يجوز أن يكون هذا ولا الذي قبله أعني المضارع سالماً البتة.

والفرق بين المراقبة والمعاقبة أن سببي المعاقبة يثبتان معاً، وأن سببي المراقبة لا يثبتان معاً، وأن المعاقبة في جزءين، إلا ما كان من مفاعيلن في الطويل والهزج ومستفعلن في الكامل وأن المراقبة في جزء واحد.

وسأفرد لباقي الزحاف باباً أذكره فيه مع المشطور إن شاء الله تعالى.

ولست أحمل أحداً على ارتكاب الزحاف إلا ما خف منه وخفي، ولو أن الخليل رحمه الله وضع كتاب العروض ليتكلف الناس ما فيه من الزحاف ويجعله مثالاً دون أن يعلموا أنها رخصة أتت بها العرب عند الضرورة لوجب أن يتكلف ما صنعه من الشعر مزاحفاً ليدل بذلك على علمه وفضل ما نحا إليه.

ولسنا نرى الزحاف الظاهر في شعر محدث، إلا القليل لمن لا يتهم كالبحتري، وما أظنه كان يتعمد ذلك، بل على سجيته؛ لأنه كان بدوياً من قرى منبج، ولذلك أعجب الناس به، وكثر الغناء في شعره؛ استطرافاً لما فيه من الحلاوة على طبع البداوة. وذكر ابن الجراح أنه من أهل قنسرين والعواصم.

وقد ذكرت ما يليق ذكره بهذا الموضع ليعرفه المتعلم إن شاء غير متكلف به شعراً إلا ما ساعده عليه الطبع، وصح له فيه الذوق؛ ولأني وجدت تكلف العمل بالعلم في كل أمر من أمور الدين أوفق، إلا في الشعر خاصة؛ فإن عمله بالطبع دون العروض أجود؛ لما في العروض من المسامحة في الزحاف، وهو مما يهجن الشعر، ويذهب برونقه






المصادر




الكتاب: العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (ت ٤٦٣ هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-